ومثلما كتب السياسي والمفكر الكبير جيمس بيرنهام منذ ما يزيد على ثلث قرن مضى : " لا أعرف سبب انحطاط الغرب بسرعة غير عادية، وهو ما يظهر أبعد ما يكون غوراً في تعميق فقدان قادة الغرب ثقتهم بأنفسهم وبالصفة الفريدة لحضارتهم الخاصة، ويظهر بتلازم ضعف الإرادة الغربية للبقاء. السبب أو الأسباب لها صلة بإنحلال الدين وبالإفراط بالترف المادي، وأفترض لها علاقة بالوصول إلى التعب والإعياء، مثلما يحدث للأشياء الدنيوية".
معلومات عن الكتاب:
تأليف : باتريك جيه . بوكانن
ترجمة : محمد محمود التوبة، مراجعة : محمد بن حامد الأحمري
دار النشر : مكتبة العبيكان
عدد الصفحات : 265 صفحة
معلومات عن المؤلف:
باتريك جيه . بوكانن كان مستشاراً كبيراً لثلاثة رؤساء أمريكيين، وخاض سباق تسمية المرشح لمنصب الرئيس عن الجمهوريين مرتين في العام 1992 وفي العام 1996، ثم كان مرشحاً لانتخابات الرئاسة عن حزب الإصلاح في العام 2000.
وهو مؤلف لخمسة كتب أخرى، من جملتها كتابان من أفضل الكتب مبيعاً هما :" مُحِق من البداية"، و"جمهورية لا إمبراطورية" وهو كاتب لعمود صحفي ينشر في عدة صحف، وعضو مؤسس لثلاثة من أشهر برامج التليفزيون العامة في محطة إن بي سي، وسي إن إن.
انتهاء أوروبا:
يذكر باتريك جيه. بوكانن في كتابه (موت الغرب) أنه مثلما كان تنامي عدد السكان طوال وقت مديد علامة على أن الأمم تتمتع بالصحة، فإن هبوط عدد السكان صار سمة للأمم والحضارات التي تعيش حالة إنحطاط، وإذا ما كان هذا صحيحاً، فإن الحضارة الغربية تكون، مع وضع القوة والثروة جانباً، في حالة حرجة.
ففي الوقت الذي تضاعف فيه عدد سكان العالم إلى ستة بلايين نسمة في غضون أربعين عاماً، توقفت الشعوب الأوروبية عن التكاثر، وبدأ عدد السكان بالتوقف، بل وفي العديد من البلدان، بدأ عدد السكان بالهبوط، ومن بين الأمم الأوروبية السبع والأربعين، هناك أمة واحدة فقط وهي ألبانيا المسلمة، كانت ما تزال تحتفظ في العام 2000 بمعدل مواليد كافٍ ليبقيها حية إلى أجل غير محدد، أما بقية أوروبا فقد بدأت تموت.
التنبؤ بالحالة المحتلملة للوضع متجهم، وبين العام 2000 والعام 2050 سوف ينمو عدد سكان العالم بأكثر من ثلاثة بلايين نسمة ليصل إلى ما يزيد على تسعة بلايين نسمة، ولكن هذه الزيادة التي تبلغ 50% من سكان المعمورة سوف تأتي بكاملها في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، بينما سوف يتلاشى عن ظهر الأرض مائة مليون نسمة من الأصول الأوروبية.
ففي العام 1960 كان السكان المنحدورن من أصول أوروبية يشكلون ربع سكان العالم، وفي العام 2000 كانوا يشكلون السُدس، أما في العام 2050 فسوف يشكلون عُشر سكان العالم. هذه هي الإحصاءات عن جنس يتلاشى، وقد حرض الوعي المتنامي بما تعنيه هذه الحالة من نذر مشؤومة إحساساً بتوجس البشر، بل بالذعر في أوروبا.
ثم يطرح المؤلف سؤاله الرئيسي الذي يدور حوله الكتاب وهو : هل موت الغرب أمر لا مناص منه؟ أو مثله مثل كل التنبؤات السابقة عن إنحطاط الغرب وموته فإن هذا الكأس أيضاً سوف يبتعد ويمر ويكشف جميع الذين قالوا لابد لنا أن نشرب هذا الكأس بوصفهم حمقى؟.
ويجيب المؤلف بأن موت الغرب ليس تنبؤاً بما سيحدث، إنه تصوير لما يحدث الآن، إن أمم العالم تموت، وهي تواجه أزمة مميتة، لا بسبب شئ ما يحدث في العالم الثالث، بل بسبب ما لا يحدث في الوطن وفي بيوت العالم الأول.
فقد مضى على معدلات الخصوبة الغربية عقود وهي تهبط، وخارج ألبانيا المسلمة ليس هناك أمة واحدة أوروبية تنجب ما يكفي من الأطفال لتعوض النقص في سكانها، ومع مرور السنوات فإن معدل الولادة لا يستقر إنه يهبط، وفيما يقارب 20 بلداً فإن المسنين يموتون منذ مدة بأسرع مما يجري إنجاب الشباب، فليس هناك أي إشارة للعودة عن ذلك، وقد بدأت الآن الأرقام المطلقة للأوروبين بالهبوط.
يوم أوروبا قد انتهى، والهجرات الضخمة القادمة من العالم الإسلامي سوف تغير التركيب العرقي للقارة القديمة بحيث سيكون الأوروبيون أكثر شللاً بخطر الإرهاب من أن يتدخلوا في شمال أفريقيا أو في الشرق الأوسط أو في الخليج العربي.
إنهيار النظام الأخلاقي:
ما يعتقده الناس حقيقة حول الصواب والخطأ يمكن أن يتحدد من خلال الكيفية التي يعيشون بها حياتهم على نحو أفضل مما يتحدد ويعرف من خلال ما يقولونه باستطلاعات الرأي، فإذا كان الأمر كذلك، فإن النظام الاخلاقي القديم في حالة موت.
وحتى وقت متأخر في الخمسينيات من 1950 كان الطلاق فضيحة، وكان "العيش معاً بلا زواج" يوصف بأنه الكيفية التي تعيش بها " القمامة البيضاء"، وكان الإجهاض مقززاً، وكان اللواط هو "الحب الذي لا يجرؤ أحد على أن ينطق باسمه".
أما اليوم، فإن نصف كل الزواجات تنتهي بالطلاق، والعلاقات هي ما تدور الحياة حولها والحب الذي لا يجرؤ أحد على أن ينطق باسمه لا يغلق فمه، ويقول عالم السكان البلجيكي رون لسثايغي إن إنهيار الزواج والخصوبة الزوجية يعود إلى "تحول في نظام تشكيل الأفكار الغربية"، ابتعد على أمد طويل عن القيم التي أكدتها النصرانية ـ التضحية، والإيثار، وقدسية الالتزام ـ وتوجه نحو "فردية علمانية" محاربة تركزت على الذات.
وعندما أصدر البابا بول السادس في العام 1968 تعميمه الكنسي ضد منع الحمل، فإن العداوة الشاملة التي أُستقبل بها ذلك التعميم، حتى بين الكثيرين من الكاثوليك أعطت شهادة على التغيير الهائل في المجتمع.
لكن مع إنتشار الزنا المتعدد غير المنضبط والطلاق على نطاق واسع وإنفجار الكتابة العارية وشيوع فلسفة الإنحلال والعبث في التيار العام، وقيام دافع الضرائب بتمويل الإجهاض، وفي يوم نستطيع فيه أن نقرأ في أمريكا عن فتيات في العشرية الثانية من أعمارهن يرمين مواليدهن الجدد في حاويات القمامة وسط الجليد، تُذكرنا بالعالم القديم لروما الوثنية، حيث تُترك المواليد الغير مرغوب فيها على سفوح التل ليموتوا من التعرض للعوامل الطبيعية.
ويقوم أطفال وسط أمريكا الآن برحلات متناوبة واجبة في الثورة الجنسية، تحت شعار "أعمل الشئ الذي يخصك"، هو الآن عرف أخلاقي، وكل إمرأة أمريكية في سن حمل الأطفال كان لها إجهاض كمرجع تعود إليه، والملايين منهن لن يرجعن عنه، يردنه موجوداً لأنفسهن ولبناتهن وسوف يصوتن ضد أي سياسي أو حزب يهدد بإنتزاع الإجهاض منهن.
أزمة إسرائيل الوجودية:
على الرغم من تزايد سكان إسرائيل، فان إتجاه الجيران يساعد المرء على فهم السبب الذي توصل من أجل المحاربون ـ السياسيون من أمثال إسحق رابين وإيهود باراك إلى قرار بأنهم لا يملكون أي خيار سوى أن يقايضوا الأرض مقابل السلام.
معدل الخصوبة عند الفلسطينيين في إسرائيل هو 4.5 طفلاً لكل إمرأة، وفي الضفة الغربية 5.5 طفل لكل إمرأة، وفي غزة 6.6 طفل لكل إمرأة. إذا كان موضوع السكان هو المصير المقدر لكل مجتمع، فإن إسرائيل تكون في أزمة وجودية لا يمكن إلا أن تتفاقم بالاحتلال العسكري المستمر وبتوسيع المستعمرات.
ففي السنوات الخمس والعشرين المقبلة، سينمو سكان إسرائيل (اليهود والعرب) فيزيد 2.1 مليون نسمة، بينما سيتعاظم عدد جيرانها العرب ويزدادون 62.2 مليون نسمة، لكن التحدي الأكبر هو المشكلة الفلسطينية لدى إسرائيل.
ففي غضون خمسة وعشرين عاماً سيكون 2 مليون فلسطيني داخل إسرائيل، و7 مليون في الضفة الغربية وغزة، و7 مليون في الأردن، أي 16 مليون فلسطيني يعيشون متلاصقين مع 6 مليون يهودي إسرائيلي.
في العام 2050 سيكون 3 مليون فلسطيني داخل إسرائيل و12 مليون فلسطيني في الضفة والقطاع و10 مليون فلسطيني في الأردن، أي 25 مليون فلسطيني يعيشون مع 7 مليون يهودي إسرائيلي في منتصف القرن.
حتى لو قبل العرب إسرائيل، فما هو الضمان لها بأن تكون هذه المطالبات بالأرض هي آخر المطالبات الموجهة إلى الدولة اليهودية؟ ولماذا يجب على العرب بعد أن يكونوا قد هضموا ما تعطيه إسرائيل، ألا يتابعوا هدف طرد الكيان الصهيوني من الشرق الأوسط؟.
يقول الإسرائيليون إنهم يعرضوا على جيرانهم سلاماً عادلا، لكن العرب قد يرون إسرائيل بصفتها أمة في تراجع، وتحاول أن تعقد أفضل صفقة تستطيعها، لكن لماذا لا ينبغي للعرب أن يعتقدوا بأنه مثلما أن الحرب جاءت بإسرائيل إلى طاولة المفاوضات لتقدم الأرض مقابل السلام، فالمزيد من الحرب سوف تنتج المزيد من الأرض مقابل السلام؟.
من وجهة نظر العرب الحرب ناجعة، فحرب يوم الغفران عام 1973 أدت بإسرائيل إلى تسليم سيناء، وجهاد حزب الله طرد إسرائيل من لبنان، وانتفاضتان أجبرتا إسرائيل على أن تعرض تسليم كل الضفة الغربية وغزة والقدس الشرقية تقريباً.
أما قوة إسرائيل العسكرية، فإنها لن تبق قادرة على أن توقف تراجع إسرائيل بأكثر مما أوقف تفوق الغرب العسكري تراجعه، هل منع العشرون ألف سلاح نووي لدى روسيا فقدانها لأوروبا الشرقية، ودول البلطيق وأوكرانيا وكازاخستان وبقية إمبراطورية موسكو في القوقاز وآسيا الوسطى؟.
صعود الإسلام:
تؤكد إِشارات عديدة موجودة في كل مكان أن الإسلام ينهض مرة ثانية، فيجري دفع إسرائيل إلى خارج الضفة الغربية كما خرجت من غزة على يد الانتفاضات التي تتولى فيها حركة حماس دوراً قيادياً، وفي تركيا وفي الجزائر جاءت الإنتخايات في التسعينيات من 1990 إلى السلطة بأنظمة إسلامية، وأزيحت هذه الأنظمة بوسائل أخرى غير ديمقراطية، لكن عادت مرة أخرى في تركيا عن طريق حزب العدالة والتنمية.
وفي المقابل تموت الصلوات الجماعية المسيحية، والكنائس تُفرغ، والمساجد تمتلئ، فقد حل الإسلام محل الدين اليهودي بوصفه الدين الثاني في أوروبا، ومع تناقص المد المسيحي وخروجه من أوروبا، فإن المد الإسلامي يدخلها.
وفي حين أن الأيديولوجية الإسلامية قد فشلت في أفغانستان وإيران والسودان في خلق دولة حديثة تستطيع أن تملك ولاء شعبها وتخدم لتكون نموذجاً للأمم الإسلامية الأخرى، فإن الدين الإسلامي لم يفشل.
وفي العلم والتكنولوجيا والاقتصاد والصناعة والزراعة والتسليح والحكم الديمقراطي، ما تزال أمريكا وأوروبا واليابان متقدمة بأجيال للأمام، ولكن العالم الإسلامي يحتفظ بشئ قد فقده الغرب : وهو الرغبة في أن يكون لديه أطفال والإرادة لمتابعة حضارتهم وثقافتهم وعائلاتهم وإيمانهم.
ومن الصعب اليوم أن تجد أمة غربية لا يموت فيها السكان المحليون، ومن الصعب على الغرار نفسه أن تجد أمة إسلامية لا ينفجر فيها عدد السكان المحليين، قد يكون الغرب تعلم ما لا يعرفه الإسلام، ولكن الإسلام يتذكر ما قد نسيه الغرب : " ليس هناك رؤية إلا بالإيمان".
البيت المنقسم:
تستطيع الحضارات والأمم والدول أن تموت بطرق عديدة، تستطيع أن تتعرض للغزو وتعرض على السيف لتقبل به، وذلك مثلما حدث للقسطنطينية في 1453، وتستطيع أن تمتصها الامبراطوريات مثلما فعلت روما للدول المدن في اليونان القديمة، ومثلما فعلت بروسيا للمقاطعات الألمانية، وتستطيع الأمم أن تتفرق وتذوب وتتصدع لأجزاء مثلما فعلت يوغسلافيا والاتحاد السوفيتي وتشيكوسلوفاكيا، على الرغم من أن الكثيرين يحاجون بأن هذه الأمم كانت دائماً مصطنعة.
الغرب هو أكثر حضارة متقدمة في التاريخ وأمريكا هي أكثر أمة متقدمة، فهى الأولى في الاقتصاد وفي العلم والتكنولوجيا والقوة العسكرية، ولا توجد قوة عظيمة أخرى تنافسها. أوروبا واليابان وأمريكا تتحكم بثلثي ثروة العالم ودخل العالم والقدرة الانتاجية في العالم.
ولكن أمريكا والغرب يواجهان أربعة أخطار واضحة وحاضرة وهي :
الأول : سكان يموتون.
الثاني : الهجرة الجماعية لشعوب من ألوان ومعتقدات وثقافات مختلفة، وهي تغير شخصية الغرب إلى الأبد.
الثالث : الظهور إلى حد الهيمنة لثقافة معادية عداء مستحكماً لأديانه وتقاليده وأخلاقياته، وهي قد بدأت الآن تصدع الغرب.
الرابع : تمزيق الأمم ومروق النخب الثقافية لتنحاز إلى حكومة عالمية وهو الذي تتلوه، إذا ما برز، نهاية الأمم.
الغرب لا تعوزه القدرة أو القوة على صد هذه المخاطر، ولكن الغرب على ما يبدو، تعوزه الرغبة أو الإرادة لإستدامة نفسه بوصفه حضارة حيوية، منفصلة، فريدة.
ومثلما كتب السياسي والمفكر الكبير جيمس بيرنهام منذ ما يزيد على ثلث قرن مضى : " لا أعرف سبب انحطاط الغرب بسرعة غير عادية، وهو ما يظهر أبعد ما يكون غوراً في تعميق فقدان قادة الغرب ثقتهم بأنفسهم وبالصفة الفريدة لحضارتهم الخاصة، ويظهر بتلازم ضعف الإرادة الغربية للبقاء. السبب أو الأسباب لها صلة بإنحلال الدين وبالإفراط بالترف المادي، وأفترض لها علاقة بالوصول إلى التعب والإعياء، مثلما يحدث للأشياء الدنيوية".
المصدر: قاوم