البوطي.. انحراف في العقيدة وخلل في المنهج!!
9 رمضان 1432
منذر الأسعد

1: الشطط والتزوير

الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي من أشهر العلماء والمشايخ في سوريا في العقود الثلاثة الأخيرة من السنين، وكان يحظى باحترام شعبي واسع، إلى أن اندلعت شرارة الثورة الشعبية السلمية في سوريا قبل نحو خمسة أشهر، فاتخذ البوطي موقف الانحياز المطلق للنظام الطاغوتي المحارب لله ورسوله والمستبد بعاصمة الأمويين والديار الشامية، والذي فتح الشام أمام المشروع المجوسي الجديد لنشر الرفض في أوساط العامة، بالأموال الطائلة التي تستغل فقر الناس الذي جاء وفق خطة خبيثة لإفقار أهل السنة والجماعة هناك.

 

بدأ السوريون يسخطون على البوطي حتى بات شتمه في المظاهرات سمة شبه دائمة، ثم انتهى به المطاف إلى إنزاله من على منبر الجامع الذي يخطب الجمعة فيه، على يد الجمهور الذي كان يتقاطر من أنحاء دمشق لحضور خطب البوطي ودروسه!!

 

غير أن أهل العلم الأصلاء لم يفاجئهم انحدار البوطي لأنهم يعلمون عقيدة الرجل المنحرفة والمناوئة لعقائد أهل السنة والجماعة، ولانبطاحه أمام نظام آل الأسد المارق من الدين مروق السهم من الرمية. فقد نذر البوطي قلمه ولسانه للكيد لأهل السنة وللتحريض عليهم، وتعامى عن حملة التشييع القذرة المستمرة منذ سنوات، والتي تصاعدت في عهد الأسد الصغير، حتى أصبح في سوريا عشرات الحوزات الرافضية، وهي البلد الذي ليس فيه رافضة سوى عدد يسير لا يكاد يُرى بالعين المجردة!!

 

وقد تصدى للبوطي علماء عاملون أفحموه بالحجة الدامغة، في فترة مبكرة، ونحن هنا نوجز دراسة علمية قيّمة أنجزها الأستاذ عبد القادر حامد، ونشرتها مجلة البيان المعروفة قبل21عاماً، على حلقات، بعنوان: (البوطي.. منهجه وعقيدته).

 

ومن أبرز ما ورد في الدراسة المهمة، تأريخ عداء البوطي للدعوة السلفية، فقد تصدى المذكور في أواخر الستينات لما سماه (اللامذهبية) ووضع كتيباً بعنوان تهويلي هو: (اللامذهبية أخطر بدعة تهدد الشريعة الإسلامية) خطب وحاضر وسب وشتم حول هذا الموضوع، ورُدَّ عليه في حينها، ولكنه شعر أنه لم يكسب الجولة، فقد وجد أنه إذا كتب رسالة رد عليه برسائل، وإذا أصدر كتيباً، رد عليه بكتاب.

 

فماذا يفعل!؟ وجاءت الفرصة، حين تشتت أعداؤه شذر مذر، لأسباب لا يد له هو فيها، فمنهم من يقبع في غياهب السجون، ومنهم من أجبر على الهجرة، ومنهم من ألجم بلجام الخوف والإرهاب، فانبرى الرجل من جديد يعيدها جَذَعة، ويستأنف طريقته في النقاش والهجوم، والعلم والتعليم، مع أن الفروسية تقتضي أن يسكت حيث سكت -أو أسكت- خصومه، ولكن يبدو أن العرب الذين علموا البشرية الفروسية ماتوا، أو لا يعرفهم البوطي. ففي عام 1408هـ أصدر كتاباً جديداً بعنوان: (السلفية مرحلة زمنية مباركة لا مذهب). يصلح أن يتخذ نموذجاً لما يجني التعصب والحقد والغرور والكبر على صاحبه وعلى العلم.

 

و قارئ الكتاب  لا يخرج بتعريف للسلفية في اللغة والاصطلاح، ولا يقبض على شيء من المنهج الذي أعاد فيه القول وحوله كثيراً، وظن أنه فصل ووضح ووضع النقاط على الحروف، أما تطبيقاته فجاءت كفاء منهجه: تناقض واضطراب مضحك، وإن كان يثير الشفقة. وقل مثل ذلك في وقفته مع ابن تيمية.

 

أما الشيء الذي يخرج القارئ به ويتعثر به أينما جال بنظره في الكتاب فهو: كره شديد للدعوة السلفية ودعاتها يعبر عنه صراحة؛ بألفاظه التي تنم عن الكبر الموجود في نفسه، ومداورة؛ حينما يحاول أن يتزيا بزي العلماء ويستخدم عباراتهم.

 

ويثبت الباحث الكريم أن البوطي لا يلتزم أبجديات الأمانة والدقة العلميتين، إذ إنه يحيلك على كتب ويذكر أرقام أجزاء وصفحات، فتحب أن تتأكد لا من النقل ذاته والإحالة نفسها أحصلت أم لا- ولكن من سياق العبارة، فتفاجَأ بعدم وجود ما يتحدث عنه البتة، كما حدث في صفحة 47 من كتابه حيث أحال على كتاب (الاعتصام) للشاطبي، ج2، ص242، وبعد الرجوع إلى هذا الموضع من كتاب الاعتصام لا تجد أثراً للموضوع الذي يتحدث عنه.

 

وكذلك فعل في صفحة 37 فأحال على (المدخل) لابن الحاج، ج4، ص155 ولا أثر لما أحال من أجله في ذلك الموضع! بل وجدنا في (المدخل) 4/157 ما يلي: (وقد نقل عن السلف - رضي الله عنهم - أنهم كانوا لا ينخلون الدقيق، ونخله من إحدى البدع الثلاث المحدثة أولاً)؛ لكن البوطي يجعل هذه العبارة هكذا: (ومعلوم أن الروايات تواردت (!!) عن السلف أنهم كانوا في أول عهدهم لا ينخلون الدقيق وأنهم يرون نخله بدعة). [ص39]، وكذلك فعل في أكثر من مكان فمما يتعلق بإحالاته على (فتح الباري)؛ ففي صفحة 135 أحال على (الفتح)، ج 7، ص82 وج3، ص315 ولم نجد في هذين الموضعين شيئاً مما ذكر.....!.

 

أما قصته مع ابن تيمية فهي أمر يحتاج إلى وقفة خاصة ليس هذا وقت الحديث عنها. ولكننا نكتفي بضرب مثال على تصرفه وتلاعبه بكلام ابن تيمية من أجل أن يقيم الحجة عليه وعلى مَن ينصر آراءه، وأسلوبه هذا يذكِّر بأسلوب الشيعة في الاحتجاج، حيث إنهم ينتقون من آراء أهل السنة ما يظنون أنه حجة عليهم مع أنهم لا يؤمنون هم - أي الشيعة - بمصادر أهل السنة، وهي عندهم لا تصلح للاحتجاج؛ لأنها تعارض ما اصطلحوا عليه من أنه أدلة لهم.

 

يقول: (ومن ذلك ما رواه ابن تيمية - رحمه الله - عن جعفر الصادق (رضي الله عنه)، من تأويله (الوجه) في قوله - تعالى -: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إلاَّ وجْهَهُ} [القصص: 88]، بالدين. وما رواه عن الضحاك من تأويله (الوجه) في الآية ذاتها بذات الله والجنة والنار والعرش. أما هو - أي ابن تيمية ذاته - (بلحمه وشحمه وعظمه ودمه!) فقد رجح أن يؤول (الوجه) بمعنى الجهة، فيكون المعنى: كل شيء هالك إلا ما أريد به جهة الله - تعالى -.

ثم قال: (وهكذا قال جمهور السلف) [ص135].

 

أما ابن تيمية فقد أشار إلى هذه القضية ضمن كلام رائع له في الرد على القائلين بالحلول والاتحاد ووحدة الوجود، لكن البوطي اقتطع من كلام ابن تيمية ما ظن أنه نصر لحجته، ثم يا ليته اكتفى بهذه الإساءة بل أشبع هذا المقتطع مسخاً وتشويهاً، أما عن حقيقة الدافع له إلى ذلك: أهو الهوى أم قصر الباع أم ضيق الصدر؟ فهذا ما نتركه للقارئ ليكتشفه بنفسه.

 

يقول ابن تيمية: روي عن أبي العالية قال: (إلا ما أريد به وجهه) وعن جعفر الصادق: (إلا دينه) ومعناهما واحد. وهذا مخالف لقول البوطي: (روى ابن تيمية عن جعفر الصادق)، هذا من جهة، ومن جهة أخرى معلوم ماذا يعني اصطلاح: رُوي، بالبناء للمجهول، عند أهل الحديث.

 

ثم نقل ابن تيمية ما ورد من الأقوال في الآية على عادته في الاستقصاء، وهو من خلال سوقه لهذه الأقوال يتوقف مناقشاً مؤيداً أو معترضاً، وقد يستطرد قليلاً لجلاء نقطة يرى توضيحها من بحث لغوي، أو فقهي، أو تاريخي، أو غير ذلك، ثم قد يعود لمتابعة نقله الأقوال، إما معضداً رأياً رآه، أو لاستبعاد وهم قد يطرأ، وشبهة قد تثار. هذا هو أسلوب الرجل، وهو لذلك يحتاج إلى شيء من الصبر وسعة الصدر حتى يُتذوَّق، وتنفتح عجائبه، وتكتشف أوابده، ولكن أنَّى لرجل نَزِق ضيّق الصدر أن يصبر على ذلك؟! وكيف به إذا جمع إلى ذلك هوى مستحكماً وعقدة نفسية من ابن تيمية؟!

 

ثم بحث ابن تيمية عن اشتقاق كلمة (الوجه) مما يبدو أن البوطي لم يفهمه لضيق صدره، فقال - أي ابن تيمية -: (وذلك أن لفظ (الوجه) يشبه أن يكون في الأصل مثل الجهة، كالوعد والعدة، والوزن والزنة، والوصل والصلة، والوسم والسمة). لكن فِعْلَة حذفت فاؤها وهي أخص من الفعل، كالأكل والإكلة، فيكون مصدراً بمعنى التوجه والقصد، كما قال الشاعر:

أستغفر الله ذنباً لست مُحصيَهُ *** ربَّ العباد إليه الوجهُ والعملُ

ثم إنه يسمى به المفعول، وهو المقصود المتوجه إليه، كما في اسم الخلق، ودرهمٌ ضَرْبُ الأمير، ونظائره، ويسمى به الفاعل المتوجه، كوجه الحيوان، يقال: أردت هذا الوجه، أي هذه الجهة والناحية، ومنه قوله: {ولِلَّهِ المَشْرِقُ والْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وجْهُ اللَّهِ} [البقرة: 115]، أي قبلة الله ووجهة الله، هكذا قال جمهور السلف [مجموع الفتاوى: 2/429].

 

ومن قراءة النص الأصلي لابن تيمية لا النص المحرَّف - نستنتج أنه لم يؤول كما زعم البوطي بل استدل بما ورد من أقوال السلف في هذه الكلمة، وبلغة العرب التي يهوِّل بها البوطي كثيراً حتى لتظنه الخليل بن أحمد أو ابن جني، وهو ليس بذاك.