
يرى الكثيرون أن تركيا تأخرت كثيرا في اتخاذ موقف بمقاطعة النظام السوري بسبب قمعه الوحشي للاحتجاجات المطالبة بإسقاط نظام الرئيس بشار الأسد، عاتبين على الحكومة التركية ذات الخلفية الإسلامية "التراخي" عن نصرة مسلمي سوريا، حتى أن بعضهم اتهمها بالنفعية وتبدية المصالح على الحق.
والحقيقة أن السبب الذي أدى إلى هذا التأخير هو المصلحة حقا؛ لكن مصلحة البلاد، وهو العقد بين الحكومة التركية وشعبها بمراعاة "مصالحهم" التي هي المسؤولية الأولى لتلك الحكومة قبل أي مسؤولية أخرى.
فسوريا تعتبر ممرا تجاريا هاما للاقتصاد التركي، وقد بلغ حجم التجارة الثنائية بين البلدين 2.5 مليار دولار عام 2010 . وبلغت استثمارات الشركات التركية في سوريا 260 مليون دولار حسب البيانات الرسمية في تركيا.
كما أن تركيا أكبر شريك تجاري لسوريا، وكانت ثمة خطط لفتح تسعة معابر حدودية بين الجانبين، إلى جانب خطط أخرى لافتتاح بنوك تركية فروعا لها في سوريا وخطط لاستكمال مشروع غاز طبيعي يربط خط أنابيب عربي بخط أنابيب تركي.
كذلك كانت شركة تكرير النفط التركية توبراش قد بدأت تستثمر في سوريا، وقد بلغ حجم مشترياتها من الشركة السورية بين مارس وسبتمبر 320 ألف طن من الخام الثقيل، حسب مسؤولي الشركة.
ففي ظل السياسة التركية السابقة التي اعتمدت تصفير المشكلات مع دول الجوار، عززت تركيا علاقات سياسية وتجارية مع سوريا متحدثة عن "مستقبل مشترك" بعد أن كادت تنشب حرب بين البلدين في التسعينات بسبب إيواء سوريا مقاتلين من المتمردين الأكراد.
كما أسفر إلغاء التأشيرات بين البلدين عن تعاون اقتصادي أوثق وازدهار للسياحة، حتى أن رجال الأعلمال السوريون بدأوا يفتحون حسابات في بنوك تركية أملا في الاحتفاظ بالأموال في مكان آمن عبر الحدود.
ولقد فاز حزب العدالة والتنمية في الانتخابات العامة بسبب الجانب الاقتصادي، رغم كونه حزبا إسلاميا في ظل مجتمع تحكمه قوانين علمانية ومؤسسة عسكرية عتية ومستقلة في قراراتها عن الحكومة وتعتبر نفسها الحصن الحصين للعلمانية بقدر ما يعتبرها الآخرين العدو اللدود للفكرة الإسلامية.
ونجحت الحكومة التي شكلها الحزب في اجتذاب قاعدة شعبية عريضة له من محبي التوجه الإسلامي كما من العلمانيين ومن غير الموجهين وحتى من أصحاب المصالح، وذلك بسبب سياساتها الاقتصادية الناجحة والناجعة التي نقلت البلاد إلى مستوى اقتصادي مختلف عما كانت عليه قبل عام 2003 أي قبل وصول "العدالة والتنمية" للحكم.
ويدرك الساسة الأتراك جيدا أن أية هزة أو تدهور في هذا المستوى الاقتصادي سيؤثر تباعا على شعبية تلك الحكومة، وكذلك سيؤثر على اعتبارها حكومة وطنية بالدرجة الأولى تهتم بمصلحة مواطنيها وليس بإنفاذ ما تمليه عليها أيديولوجيتها الإسلامية.
إن رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان يحكم الأتراك؛ بعلمانييهم وقومييهم وأكرادهم، وما الإسلاميون إلا قطاعا من هؤلاء المحكومين. لذا وجب أن تكون استراتيجيته في الرد على الإجرام السوري قائمة على أساس "تركي". بمعنى أن تأتي من منطلق "ما يجب أن يفعله الأتراك" في مثل هذا الموقف، وما "مصلحة الأتراك" من هذا الرد.
لكل هذه "المصالح"، ارتأت الحكومة التركية أن "تمهد" لشعبها ضررا كبيرا سيحل عليه بقطيعة سوريا. كان هذا التمهيد من خلال التصريحات المتدرجة من جانب قيادات الحكومة. فتدرج الموقف التركي من حث النظام السوري على إجراء إصلاحات، إلى إدانة التعامل العنيف مع المحتجين، وهكذا حتى انتهت إلى تصريحاتها الأخيرة بأن "الوقت قد فات" لإجراء إصلاحات، وأن الشعب السوري "سيطيح بالنظام عاجلا أم آجلا"، وختاما بفرض حظر على الأسلحة لسوريا وتلك العقوبات التي أعلنت تركيا أنها ستفرضها على سوريا خلال الأيام المقبلة، بعد أن يزور أردوغان مخيمات حدودية تأوي أكثر من سبعة آلاف سوري فروا من أعمال العنف والقمع التي يمارسها نظام الأسد.
وهنا ينبغي أن نذكر بأن سياسة فرض العقوبات تعد خروجا عن سجل تركيا السابق في معارضة العقوبات على جيرانها في الشرق الأوسط. لكن تركيا استبعدت إجراءات مثل وقف بيع الكهرباء لسوريا وخفض كمية المياه التي تسمح بها عبر نهر الفرات، تفاديا لمعاناة الشعب السوري.
إن تركيا لا تمتلك عصا سحرية لتغيير سلوك النظام السوري مع المحتجين، وستظل تدخلاتها في حدود الإدانة والشجب أو العقوبات قليلة المفعول والمفروضة أساسا منذ سنين على النظام السوري من قبل الغرب.
لذا كان من الضروري انتظار التفاقم المحتوم للأوضاع و"استشراء القتل" على يد عصابات النظام السوري واشتعال الشارع التركي بالغضب والحنق على الأسد، حتى يصبح أي قرار تركي بقطع عيش الأتراك في سوريا منطقي لدى المواطنين الأتراك الذين انتخب كثير منهم حكومة العدالة والتنمية على أساس اقتصادي.
انتظرت الحكومة إذا التهميد لشعبها ليكون مستعدا لمثل تلك "الهزة" التي ستؤثر لا شك على شركات عديدة. وهنا علينا أن نتذكر أن أولائك الأتراك الذين يحكمهم أردوغان ليسوا جميعا إسلاميين، ولا مناضلين مستعدين للتضحية بأقواتهم مثل أبي بكر الصديق وعثمان رضي الله عنهما.
إن سوق المال التركية تصوت في الانتخابات البرلمانية كما يصوت الناخبون؛ فقبيل الانتخابات الأخيرة في مايو الماضي ارتفعت الأسهم التركية وانتعشت البورصة لأن توقعات المستثمرين كانت إيجابية بأن تبقى الأوضاع مستقرة ويستكمل الاقتصاد مسيرة الانتعاش بإعادة انتخاب حكومة حزب العدالة والتنمية. وصدقت توقعاتهم.
وهي نفس الحال التي ستتلقى بها البورصة ردة فعل قرار بحجم قطع العلاقات الاقتصادية مع جارة سياحية وممرر اقتصادي محوري نحو العالم العربي وآسيا.
كما أن العقوبات التي ستفرضها تركيا على سوريا خاصة تلك التي تستهدف البنوك السورية تجعل التحويلات المالية في المستقبل صعبة حتى وإن لم تفرض عقوبات علي تجارة النفط تحديدا. وعلى الأرجح ستتخلى شركة البترول الوطنية التركية (تباو) عن خطط للتنقيب المشترك عن النفط والغاز في سوريا وفي دولة ثالثة بالتعاون مع شركة النفط المملوكة للدولة في سوريا.
وعلى الصعيد الأمني، تخشى تركيا من الدور الذي تلعبه الحكومة السورية في تأليب الأكراد على النظام التركي، الذي يعاني بالفعل من هجمات المتمردين الأكراد.
وتصاعدت بالفعل هجمات الأكراد مع إعلان تركيا شجبها لنظام الأسد ودعمها للشعب الذي "سيتخلص من النظام عاجلا أو آجلا". وكان أخطر هذه الهجمات ثلاثة انفجارات وقعت قرب مقر رئاسة الوزراء التركية في العاصمة أنقرة الأسبوع الماضي.
وهذا الخطر الكردي المحدق بتركيا كاد يتسبب في تسعينيات القرن الماضي في إشعال حرب بين البلدين، هو ما لا يريده أردوغان ولا ناخبيه.
ولا يستبعد أن يكون ثمة اتفاق أمني بين الولايات المتحدة وتركيا على سماح الأخيرة بإنشاء الدرع الصاروخية الأوروبية على أرضها مقابل ضمان ألا تدعم أمريكا أي تمرد كردي.
وتخشى تركيا من أن تسعى الحكومة السورية إلى صبغ الانتفاضة المطالبة بإسقاطها بصبغة عرقية، ما يشجع الأكراد في سوريا على السعي لدولة مزعومة تمتد في تركيا والعراق كذلك.
وإلى جانب المشكلة الكردية، هناك أيضا ملف "إسكندرونة"، وهي منطقة في جمهورية هاتاي سابقا التي انضمت إلى تركيا بعد استفتاء شعبي عام 1939. لكن سوريا تعتبرها منطقة سورية محتلة منذ عهد الانتداب الفرنسي. والكثير من سكانها من ذوي الأصول العربية.
وهي منطقة هامة استراتيجيا باعتبارها تحوي أكبر ميناء تركي على البحر المتوسط. ويستخدم ميناؤها لتصدير النفط القادم إليها عبر خطوط الأنابيب، كما أنه منتجع سياحي هام. هذا إلى جانب أهميتها التاريخية التي تجعل منها مزارا سياحيا هاما.
وتقول سوريا إن سلطات الانتداب الفرنسي قامت بالتنازل عن لواء اسكندرونة لتركيا في عام 1939، لضمان تأييد تركيا للحلفاء في بداية الحرب العالمية الثانية. وخالفت فرنسا بذلك صك الانتداب الذي يوجب على السلطة المنتدبة الحفاظ على الأراضي التي انتدبت عليها. لم تعترف سوريا قط بضم تركيا للواء، وما زالت الخرائط السورية والعربية ترسمه ضمن أراضي سوريا.
لكن النظام السوري تحت قيادة الأسد الأب والابن لم يطالب بهذا اللواء قط، حاله في ذلك كحاله في الجولان التي لم يحارب قط لاستردادها من الاحتلال "الإسرائيلي".
وتخشى تركيا من أن أي تدهور في العلاقات بينها وبين سوريا سيعيد فتح الملف مجددا، وهو ما سيتسبب لها في اضطرابات على المستوى الشعبي وكذلك على المستوى الاقتصادي.
لكل هذه المصالح/المخاطر على الداخل التركي، كان على الحكومة أن تناول الملف السوري ببالغ الحذر لألا تفتح على شعبها طوفانا من المشكلات، قد يتسبب في تدميرها وتدمير مشروعها الإصلاحي المستند إلى خلفية إسلامية.