انتهت الانتخابات في تونس يوم الأحد 23 أكتوبر الموافق 25 / 11 / 1432 هجرية ، وسط انبهار عربي ودولي غير مسبوق. فقد انتهى ذلك العصر الذي يربط تخلف العرب والمسلمين في مجال الإصلاح السياسي، بالعوامل الدينية والتاريخية . وانكشفت فرية أن العربي لا يحب التداول السلمي على السلطة، ويركن لما يسمى زورا ( الإستقرار) . لكن أهم ما تحقق في تونس، هو رفض الشعب لوصاية أولئك الحداثوييين ( هكذا ) على الدولة والمجتمع. فطالما صدعوا الرؤس بمقولة أن " الشعب يريد هكذا" أو أن " الشعب هكذا" وقد أظهرت نتائج الإنتخابات أن الشعب يريد الإسلام، أو على الأقل غالبية الشعب تريد دين الأمة، الذي همش وتم التطاول عليه في الحقب السابقة في غياب من يذود عنه، بل من يبين محاسنه مقارنة ببضاعة المرتدين والصادين عنه.
معاقبة العهد البائد: خروج الشعب التونسي، نساءا ورجالا، شبابا وشيوخا إلى الانتخابات، وانتظارالآلاف منهم ( أكثر من 4 ملايين أدلوا بأصواتهم في الانتخابات) ما يربو عن 6 ساعات في طوابير طويلة، دون أن يحدث ما يعكر صفو العملية الانتخابية ، سوى بعض اللمم البسيط الذي تم تطويقه ، دليل على استعداد الشعب التونسي ومنذ عقود لانتخاب ممثليه سواء في البرلمان أو غيره من المجالس التمثيلية كالبلديات والولاة ( المحافظين ) والعمد وغيرها. وقد أظهر الشعب رشدا كبيرا سواء من حيث الانتظام في صفوف في هدوء أو حسن الإختيار، وإن كان هناك من اشكالية فهي في الأميين الذين لم يوفر لهم من يساعدهم على عملية الإقتراع، وكنا نسمع أصواتهم من داخل الخلوة يطلبون المساعدة، وكثيرا ما كانوا يصرحون بأنهم يريدون التصويت للنهضة، ولكن لا يعرفون، وكنا مقيدين بالقانون الذي يفرض على كل ناخب أن يختار بمفرده دون تدخل من أحد ، وكنا مع رئيس القسم الانتخابي وعضوي القسم وبقية الملاحظين الدوليين والمحليين نجيبهم بأننا لا نستطيع التدخل، فكانوا يصوتون كيفما اتفق ، وكانت أصواتهم أصواتا طائشة حصل عليها من لا يستحقها ، ومع ذلك سقط في الانتخابات . وبالتالي فإن الاسلاميين نجحوا بأصوات المثقفين أو بلهجة عامة أصوات المتعلمين وإن شئت باصوات من يحسنون القراءة والكتابة .
ولا شك بأن نتائج التصويت التي تفيد بأن الاسلاميين نجحوا بأكثر من 50 في المائة ( حزب النهضة ) إضافة ل10 في المائة لقائمة مستقلة محسوبة على الاسلاميين المستقلين ، و15 في المائة لمنافسين غير معادين، و12 في المائة لمنافسين يمكن التفاهم معهم ، تؤكد بأن تونس اختارت الهوية ، واختارت الاسلام واختارت من لا يناصبون دينها العداء. علما بأن 110 أحزاب خاضت الانتخابات ، بينها 33 قائمة حزبية ومستقلة لم تحصل على أي صوت ، وكانت نتائج البقية هزيلة للغاية ولا تكاد تذكر.
ولا شك أيضا أن تونس عاقبت من خلال نتائج التصويت العهد البائد، فكثافة المشاركة الشعبية في التصويت وتحقيق نصاب تاريخي ( أكثر من 90 في المائة ) تؤكد على أن الشعب كان مقموعا في العهد البائد، وأنه يعبر عن ولائه للاسلام وانتمائه للامة. وهو ما حدا ببعض المرتدين للحديث عن " استخدام المقدس" و"استغلال المساجد" وهي تهمة جديدة يلصقونها بأنفسهم بأنهم بعيدون عن المقدسات ، مقاطعون للمساجد ومنقطعون عنها.
هزيمة اليساروالفرنكفون : لقد اعترف شق من الفرنكفونيين بهزيمتهم، وهم الذين بنو حملتهم الانتخابية على التخويف من الإسلاميين، وتحديدا النهضة، وبالتالي فإن نتائج الإنتخابات هي هزيمة لتلك التخرصات، وللايديولوجيا الفرنكفونية، كما هي هزيمة لفلول اليسارالانتهازي، الذي تحالف مع بن علي ضد الاسلاميين، ومثل رأس حربة في مشروع تجفيف ينابيع الإسلام في البلاد. وقد ردت فلول اليسار على نتائج الانتخابات بتنظيم مظاهرات شارك فيها أعداد صغيرة من الموتورين والهامشيين، لكنهم لم يجرؤوا على الإعلان عن أنهم من فلول اليسار الانتهازي المهزوم شعبيا وحزبيا في الانتخابات . وقال أحد رموز اليسار في تونس حمة الهمامي" منا نسعى لتحقيق نسبة 10 في المائة، ولكننا لم نحصل عليها" وقالت الأمينة ابلعامة لحزب الديمقراطيين التقدميين مية الجريبي، أداء الحزب كان سيئا، وننحني لإرادة الشعب. وذكرت بأن حزبها سيكون في المعارضة معربة عن أسفها للجهد الذي بذله حزبها في الحملة الانتخابية ولكن النتائج كانت كارثية بالنسبة له . لا سيما وأنه كان يؤكد في كل مقابلات قادته الصحافية على أن هو ما سينافس النهضة ويهزمها ويشكل الحكومة القادمة.
ورغم الهزيمة المدوية لأحزاب فرنسا في تونس، إلا أن بعض فلول اليسار كأحمد ابراهيم ، رئيس حزب التجديد ( الحزب الشيوعي سابقا ) لا يزال مصرا على ضرورة الاحتفاظ على ما وصفه مكاسب حداثية، لم يستشر فيها الشعب ولم تجر فيها نقاشات حقيقية على مستوى النخبة . إذ أن النخبة تضم جميع المثقفين من جميع التيارات، وليس ما درج عليه القوم عند وصف النخبة وهم خليط من الفرنكفونيين، والكومونولثيين أو بتعبير طلابي( الفرنكلوثيين ). وقد أثبتت النخبة الإسلامية مقدرة فائقة على المبادرة الثقافية، وعلى التفكيكية السياسيوجغرافية، وعلى الإضافة في مجال القيم الكونية، بما يفوق السائد، فمثلا يطالب الاسلاميون اليوم ، بسن قوانين تضمن حق المرأة في العمل، ولكن لا يكون ذلك فرضا عليها وفقا لقاعدة" من لا يعمل لا يأكل". فالمرأة في تونس كما في دول أخرى لم تعد تمارس حقا وإنما واجبا وهو العمل. ونحن نريد أن نرفق بها فنجعله حقا لا فرضا. ونريد أن تتمتع المرأة بإجازة حمل( يتم تحديدها ) وإجازة ولادة ( لمدة سنة ) وهي مطالب تقدم بها الاسلاميون منذ 3 عقود وتطبق في بعض الدول الاوروبية اليوم.
وقد رأينا كيف تراجع اليسارمن مطالبة بأغلبية مريحة تكرس هيمنتهم على المجلس التأسيسي، وتزيد من وصايتهم على الثقافة والتعليم والمجتمع، وتعطي لممارستهم ضد الدين والتدين مشروعية شعبية، إلى التصريح بأنهم لم يكن لديهم أوهام الحصول على الأغلبية في المجلس التأسيسي. وكيف تراجعوا أيضا عن المطالبة بمبدأ سلطة الأغلبية، إلى رفض حق الأغلبية والتمسك بالتوافق. ومعلوم أن النهضة كانت قد خرجت من " مجلس حماية الثورة" لأنهم ارادوا ممارسة أغلبية لم ينتخبها الشعب وإنما جمعوا بعضهم وكونوا أغلبية داخل مجلس حماية الثورة الذي ذهبت ريحه بعد ظهور نتائج الإنتخابات.
روح الحوار والوفاق : عبر الإسلاميون قبل وأثناء وبعد الإنتخابات،عن استعدادهم للحوار والتوافق على ما ينفع تونس، بينما أبدى اليساريون نوعا من التحفظ على مبدأ الحوار، مطالبيين الفائزين في الإنتخابات على تحمل الأمانة لوحدهم . في حين هناك أطراف خارجية تحث اليسار والفرنكفونيين وغيرهم على الدخول في الحوار وتقلد مناصب في حكومة المجلس الانتقالي حتى يتعود الشعب على رؤيتهم مع الإسلاميين، الذين طلبوا من الشعب التصويت لهم دون سواهم، حتى سقبل الشعب مستقبلا بوجودهم( هكذا ) .
ومن البديهي الإشارة إلى وجود خلاف بين الأحزاب السياسية حول علاقة الدين بالسلطة، وعلاقة الدين بالسياسة عموما. ومن هنا لا بد من ايجاد طريقة أو آليات لحسم هذا الخلاف ليس بالتنازل وإنما بالإحتكام إلى الشعب. إذ أن ( الفرنكولوثيين) ، يريدون من الإسلاميين التنازل عن علوية النص القرآني، بل عن إدخال الشريعة الإسلامية كمصدر أساسي فضلا عن أن يكون الوحيد للتشريع في البلاد. وهذا لا يمكن أن يحسم فيه بالضغط وطلب تنازل الإسلاميين، وإنما بالعودة للشعب ليحسم في هذا الأمر.
ولا نعرف ما إذا كان أعداء الشعب سيغيرون من نهجهم السابق في الإساءة للاسلام والعدوان على المتدينين ، كرفض تسجيل طالبة منقبة قبل الانتخابات في جامعة سوسة الساحلية، أو الإساءة في قناتي، نسمة، وحنبعل، للرسول صلى الله عليه وسلم، وأم المؤمنين عائشة، والصحابة، وبث فيلم، لا رب ولا سيدي، وبريسيبوليس، الذي يجسد الذات الإلهية ويسئ إليها، أم أنهم سيعتمدون تيكتيكا جديدا. لا سيما وأن محاولة تشويه الإسلاميين وتصويرهم ، وهو ما بدا في منشور معادي، كما لو كانوا عملاء للوبي الصهيوني في الولايات المتحدة، حيث تلقى أعضاء في حركة النهضة الاسلامية دعوة من وزارة الخارجية الأمريكية لزيارة واشنطن، وعندما وصلوا إلى هناك استقبلتهم شخصيات بعضها معروفة بميولاتها الصهيونية، فجعلوا من ذلك مطية للنيل من النهضة. وهو ما أظهر جهلا بالسياسة الدولية، فلقاء شخص يحمل أفكارا ما أو معروف بميولات ما، لا تعني بالضرورة الاتفاق معه في كل شئ. فالسياسيون يتفقون في أمور ويختلفون حول أشياء كثيرة ولا يعني لقاؤهم في مكان ما أن بعضهم يتبع بعض أو يتفق معه في السياسة الخارجية، فعندما كنت في سراييفو سألوني سؤالا حول الموقف من واشنطن فقلت " نؤيد الموقف الأمريكي في كوسوفا، ونناهضه في فلسطين لأن هناك ازدواجية في المعايير بادية بوضوح في السياسة الخارجية الأمريكية" .
لذلك ينتظر أن تغير بعض الأطراف مواقفها بعد الانتخابات، فكل تلك التخرصات ساهمت في ارتفاع شعبية حركة النهضة وقادتها للفوز، فهل فلول اليسار من الغباء مما يجعلهم يكررون نفس السيناريو في الانتخابات البرلمانية القادمة ، انتظروا إنا معكم منتظرون.