انتخابات تونس .. الحقائق والأكاذيب
30 ذو القعدة 1432
عاصف عبد الهادي

بعد ثلاثة وعشرين عاما من الحكم بالحديد والنار في عهد الرئيس التونسي المخلوع ، زين العابدين بن علي ، عانى خلالها الشعب التونسي بكل فئاته من الظلم والحرمان والإقصاء والتجهيل ، إلى أن حانت ساعة الصفر ، وانطلقت شرارة الانتفاضة الشعبية لتسقط الجماهير أول طاغية عن سدة الحكم .

 

سقط الطاغية ، لكن أتباعه ما يزالون في كل مفاصل الدولة ، وقد عقدوا العزم على الاستمرار في ذات الدرب الذي أودى بزعيمهم المخلوع ، لكن بوجوه ومسميات جديدة ، فانطلقت أحزاب المعارضة الكرتونية التي كانت تقتات من الفتات الذي يلقيه إليها النظام البائد ، الذي كانت تختلف معه – على الفضائيات فقط – بالقدر الذي يحدده لها سلفا ، حتى توهم الشعب أنها معارضة فعالة لحكم الرئيس المستبد ، لكنها في الواقع كانت ذراعه الأيسر في محاربة شرفاء تونس .

 

عادت حركة النهضة إلى الحياة السياسية من جديد ، بعد طول تغييب وملاحقة ومطاردة لعناصرها وقياداتها في الداخل والخارج ، وقد قدمت خلال هذه الفترة عشرات الشهداء والأسرى والمهجرين ، كما عاد إلى الوطن المحرر ، شرفاء آخرون يختلفون مع حركة النهضة في الأيديولوجيا ، لكنهم يتفقون معها في محاربة الظلم والاستبداد ، فنالهم ما نال النهضة من البطش والإقصاء ، وإن بدرجة أقل ، لا شكّ أن هذه العودة ساءت الكثير من أزلام النظام البائد وأعوانه وأدواته ، حتى خرج بعضهم عن الأدب فاستقبلوا الشيخ راشد الغنوشي في المطار بعبارات مسيئة للإسلام ونعتوه بأوصاف نابية ، وتكرر هذا في أكثر من مناسبة .

 

وعندما حان وقت المعركة الانتخابية ، وضعت العراقيل أمام مشاركة الحركة الإسلامية في الانتخابات ، أول هذه العراقيل كان اعتماد نظام القوائم – النسبي - وإلغاء النظام الفردي ، حيث يقوم المقترعون بانتخاب أحزاب وليس أفراد ، ظنا من واضعي هذا القرار أن الشعب التونسي يكره الإسلاميين ، وإن امتازوا بالصدق ونظافة اليد ونقاء السيرة ، فهذا لا يشفع لهم ، عند الشعب الذي يرد دولة متحررة من الأديان والأخلاق ! على الأسس التي أرساها المقبور بورقيبة  والمخلوع بن علي .

 

ومن جملة هذه العراقيل أيضا ، هو نظام المناصفة بين الجنسين في القوائم ، أي أن يكون نصف المرشحين في القائمة الواحدة من الذكور ونصفهم الآخر من الإناث بشكل مختلط ، ليضمنوا على حد افترائهم مشاركة المرأة بشكل فاعل في المجلس التأسيسي ، وكانوا يعتقدون أن ذلك سيشكل تحديا للحركة الإسلامية ، وزاجرا لها عن خوض هذه الانتخابات ، لتترك لهم الفوز السهل ، فخاب ظنهم ووافقت النهضة على دخول الانتخابات وفق المقاييس التي وضعها خصومها . وفاجأتهم بقوائم تحفل بالكفاءات العلمية من الجنسين .

 

وخلال مرحلة الدعاية الانتخابية لم تترك هذه الأحزاب الكرتونية وسيلة للتشهير بالإسلاميين إلا واتبعتها ، فاتهمت حركة النهضة بالتبعية للخارج ، ووصفتها بالتطرف والتشدد والإرهاب والظلامية، وأنها تريد إقامة دولة دينية ، وكأن الانتساب للدين الإسلامي صار تهمة ! ، ثم اتهمتها بشراء ذمم المواطنين بالأموال والمساعدات ، لدرجة أن هذه الأحزاب بنت دعايتها الانتخابية على توجيه الشتائم والانتقادات لحركة النهضة ، حتى أصبحت كلمة النهضة مخيفة لدى بعض المواطنين التونسيين بفعل هذه الدعاية السوداء ، مدفوعة الأجر .

 

أمام هذه العقبات والامتحانات ، كانت الحركة الإسلامية حكيمة تجيد التصرف ، فلم تجرها الاستفزازات التي وجهت إليها إلى معارك داخلية يريدها الخصوم ذريعة للقضاء عليها ، هذه الاستفزازت كانت على المستوى الميداني في الشارع ، وكانت على المستوى الإعلامي حيث تولّت هذه المهمة فضائيات خاصة ، ولعل بث الفيلم المسيء للذات الإلهية كان أبرز هذه الاستفزازت ، من قبل الأحزاب العلمانية والإلحادية .
كما أن النهضة لم تغتر بشعبيتها التي تحظى بها في صفوف الكثير من التونسيين  الذين ينظرون إليها كمخلص ومنقذ لهم من الجور الذي حاق بهم في العهد البائد .

 

وبالفعل ،لم تشكل نتائج الانتخابات التي أظهرت فوزا كاسحا لحركة النهضة أي مفاجئات ، بل كانت - صفعة - متوقعة ومنتظرة - وكانت صفعة قوية للخصوم - ، الوحيدون الذي تفاجؤوا بها هم الذين كانوا يكذبون على أنفسهم وعلى شعبهم ، لكن شعبهم كان واعيا متيقظا ، ولم يصدقهم ، فكان كذبهم فقط على أنفسهم .

 

نتائج الانتخابات رسخت عدة حقائق في أذهان الجميع ، في مقدمة هذه الحقائق أن الدعاية السوداء والأكاذيب لا يمكن أن تغطي الحقائق والوقائع ، ولا يمكن أن تخدع الشعوب ، فعندما يختار الشعب التونسي الإسلاميين ، بعد عقود طويلة من تغييب الإسلام ومظاهره من الحياة العامة في تونس (منع الحجاب والنقاب ، منع تعدد الزوجات ، إلغاء الحج في أحد الأعوام ، تخفيض صوت الأذان في المساجد ، استثناء الملتزمين من الوظائف ... ) ، فهذا يكشف لنا ما يمكن أن يحرزه الإسلاميين من نتائج أفضل في الدول العربية الأخرى ، وصدق الله تعالى إذ يقول : (إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون والذين كفروا إلى جهنم يحشرون) .

 

كما ان الشعب عندما يعطى الحرية الكاملة في اختيار ممثليه ، وعندما يسمح للشرفاء والوطنيين ودعاة الإصلاح بخوض الانتخابات ، لا بد أن ينحاز الشعب لهم ، ويعطيهم ثقته الكبيرة بعد أن جرب كذب الآخرين على مدار سنوات وعقود .
كما أن هذه الانتخابات تكشف وتدلل على أن الانتخابات السابقة كانت محض تزوير وتزييف لإرادة الشعب .

 

كذلك فإن فوز حزب المؤتمر من أجل الجمهورية بالمرتبة الثانية بعد حركة النهضة ليدلل على أن الجماهير تميز بين المخلصين للوطن ، وأدعياء الإصلاح أتباع الاستعمار ، وإن كانوا يحملون الفكر والأيديولوجيا نفسها .
وختاما ، نقول : لقد أبعدت تونس عن عمقها العربي والإسلامي طويلا ، وكان من أمنيات العديد من الليبراليين العرب أن يصلوا بدولهم إلى ما وصلت إليه الأمور في تونس ، ولكن الوضع الآن بدأ ينقلب وينعكس ، فها هي تونس تقترب أكثر من دينها ، ومن أمتها العربية والإسلامية ، وها هي الشعوب العربية التي تقتفي أثر تونس وتثور على الظلم والظالمين ، الذين أشبعونا كذبا ، وتخويفا من التيارات الإسلامية ، وكما قال شيخنا القرضاوي : " إن الليبراليين والعلمانيين أخذوا زمانهم وهذا هو زمان الإسلاميين " .