حلول وأصول في حماية العقل المسلم من شبهات المغرضين:
بعد هذه الأطروحة التي عرضت قضيَّة أحسب أنَّها من مهمَّات قضايا الفكر الإسلامي، لابد لسائل أن يقول: وكيف نحصِّن أنفسنا وفكرنا من الداخل، خشية أن يضلَّنا ما هو زائغ عن المنهج القويم، وما الأسس والأصول التي تكوِّن لدينا حصانة شرعيَّة، نستطيع ـ بإذن الله ـ بعدها أن نردَّ الغلط إذا أوردت الشبهات، وخصوصاً في ظلِّ ما يُمارَس الآن من الحرب الإعلاميَّة الغازية للأفكار والعقول المسلمة؟
لعلَّ الجواب يكمن في عدَّة نقاط أرى أنَّها ـ بإذنه تعالى ـ تسهم في بناء الحصانة الشرعية للعقليَّة الإسلامية:
1ـ التعلُّق باللَّه ـ عزَّ وجل ـ والاستعانة به، وسؤاله الهداية والثبات والممات على دين الإسلام من غير تبديل ولا تغيير، ولنا في رسول الله أسوة حسنة، فقد كان يسأل ربَّه الهداية، وكان كثيراَ ما يسأله الثبات على هذا الدين، وعدم تقلُّب قلبه عن منهج الإسلام، ويستعيذ به من أن يَضِلَّ أو يُضلَّ، كما كان ـ عليه الصلاة والسلام ـ يستعيذ بالله تعالى من الفتن ما ظهر منها وما بطن، فالدعاء الملازم لذلك المعبّر عن صدق العبوديَّة، وملازمة القرع لأبواب السماء: {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [آل عمران:8]، فإذا اجتمعت هذه كلَّها، فلاشكَّ أنَّ رحمة الله سبحانه تسبق غضبه عز وجل، فإذا تعلق العبد بربِّه حقَّ التعلُّق، فإن الله ـ سبحانه وبحمده ـ وهو الكريم الوهاب لا يُعْرِضُ عنه.
2ـ الثِّقة بمنهج الله ووعده وحكمه وأوامره، واليقين به ومراقبته، والشعور بالمسؤوليَّة عن حفظ الدين من شبهات المغرضين، وعدم خلطه بالباطل، ومن ثمَّ الصبر على مكائد المنفِّذين والمسوِّغين للشُّبهات، فإنَّه سبحانه وتعالى يقول: {إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} [آل عمران:120]، وهذا ما عبّر عنه التابعي الجليل سفيان الثوري بمقولته الشهيرة: (بالصبر واليقين تُنال الإمامة في الدين) وممَّا يشهد لذلك قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة:24].
3ـ تلقِّي العلم عن العلماء الربَّانيين، وإرجاع المسائل المشكلة إليهم ليحلُّوها ويوضِّحوا ما أبهم على صاحبها، فلا يستعجل في قبول فكرةٍ أطلقها من لا يؤمَن فكره، ولا يبقي تلك الشُّبهة في صدره حتَّى تعظم، بل ينبغي عليه أن يضبط نفسه بالرجوع للراسخين من أهل العلم؛ فإن الله ـ تعالى ـ يقول: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [الأنبياء:7]، وذلك لأنَّ هذا العلم دين يدين به العبد لربَّه ويلقاه به إذا مات عليه، ولهذا قال محمد بن سيرين ـ رحمه الله ـ: (إنَّ هذا العلم دين؛ فانظروا عمَّن تأخذون دينكم).
4ـ البناء الذاتي بمعرفة مصادر التَّلقي، ومناهج الاستدلال الصحيحة، وملء القلب بنور الوحي من الكتاب والسنَّة، مع ملازمة إجماع أهل السنَّة والجماعة، فإنَّ هذه المصادر تعصم بإذن الله من قاصمة الوقوع في الخطأ والانحراف والزلل، وسبب رئيس لسدِّ باب الشبهات المظلمات، وذلك ـ بعونه تعالى ـ مساعدٌ لحماية العقل المسلم من مضلاَّت الفتن.
قال أبو عثمان النيسابوري: (من أمرَّ السُّنَّة على نفسه قولاً وفعلاً نطق بالحكمة، ومن أمرَّ الهوى على نفسه قولاً وفعلاً نطق بالبدعة لأنَّ الله تعالى يقول: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} [النور:54]، ومن ذلك إرجاع المجمل إلى المفصل، والمطلق إلى المقيَّد، والجمع بين الأدلَّة التي يوهم ظاهرُها التعارضَ، بالرجوع لكتب أهل العلم، واستقاء معاني الألفاظ من العلماء الربَّانيين، وكذا برد المتشابه إلى المحكم، وقد روت عائشة ـ رضي الله عنها ـ أنَّ رسول الله ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ قرأ قول الحق عز وجل: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} [آل عمران:7]، ثم قال ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ فإذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه، فأولئك الذين سمَّى الله فاحذروهم)([22]).
5ـ التعلَّق بكتاب الله قراءة وفقهاً وتدبُّراً وعملاً، فإذا أقبل الخلق على كتاب الله والانتهاج بنهجه، فإن المولى تبارك وتعالى يجيرهم من الفتن، فالقرآن شفاء لما في الصدور، ومن يُعْرِض عنه فسيصيبه من العذاب بقدر ابتعاده عنه {وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً * لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَاباً صَعَداً} [الجـن:16-17]، وصدق الله القائل لآدم وزوجه-وبالتبعية لذريته-: {قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طـه:123-124]، ورضي الله عن ابن عبَّاس إذ قال: (من قرأ القرآن فاتَّبع ما فيه هداه الله من الضَّلالة في الدنيا، ووقاه يوم القيامة الحساب)([23]). وهنالك نصوص كثيرة تقطع بأنَّه من ابتغى الهدى من غير كتاب الله، فإنَّ الله سيضلُّه.
لقد قال رسول الله ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ قال: (إنَّ هذا القرآن سبب طرفه بيد الله، وطرفه بأيديكم، فتمسَّكوا به، فإنَّكم لن تضلُّوا ولن تهلكوا بعده أبداً)([24]).
وقد عبّر عنه بعضهم شعراً فقال:
كتاب الله عزَّ وجلَّ قولي *** وما صحَّت به الآثار ديني
فدع ما صدَّ من هذي وخذها *** تكن منها على عين اليقين([25])
6ـ إصلاح القلب ومجاهدته، ومن حاول ذلك وجَدَّ لبلوغه واجتهد في تحصيله، فليبشر بالهداية واليقين، فاللَّه ـ تعالى ـ يقول: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69].
7ـ معرفة مقاصد الشريعة، ومرامي الدين الإسلامي؛ لأنَّها تمنح المسلم قوَّة منهجيَّة كبيرة، ولقاحاً ضدَّ الانحرافات.
8ـ تكثيف البرامج التوجيهيَّة، وأخصُّ بالذكر ما يرد منها في وسائل الإعلام بشتَّى أصنافها، ومحاولة زرع الثقة في قلوب المسلمين بالاعتزاز بدينهم وعقيدتهم، وتمكين قواعد الإسلام في قلوبهم، والرد على ما يضادها، فإن من شأن ذلك ترسيخ القناعة بأولويَّة الأصول الإسلاميَّة في قلوب المسلمين، وبناء الثبات العقدي في قلوبهم، وذاك هو التحصين الذي نريد.
9ـ إنشاء مراكز الأبحاث والدراسات المعنيَّة برصد الانحرافات الفكريَّة، والتعقيب عليها بتفنيد الشُّبه، والجواب عن الشكوك والأراجيف التي يثيرها بعض المارقين من قيم الإسلام ومبادئه، والجهاد الفكري ضدَّها، وذلك امتثالاً لقوله تعالى: {فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَاداً كَبِيراً} [الفرقان:52]، وتدعيم هذه المراكز باستقطاب الباحثين الأكفياء، وضخِّ المال اللازم لها، وإعطائها قدراً من الشهرة والانفتاح على الوسائل الإعلاميَّة.
10ـ بناء علاقات طيبة مع وسائل الإعلام بشتَّى صورها وألوانها؛ لكي تفسح في المجال لعلماء أهل السنَّة ومفكريهم للظهور الإعلامي، وعرض رأيهم تجاه الآراء الأخرى، وبخاصَّة من الأقوياء المتمكِّنين منهم، وإنَّ ممَّا يؤسف له، أن تجد بعضاً من وسائل الإعلام، تستضيف رجلاً بأفكار منحرفة، وتقابله بآخر من المنتسبين لمنهج أهل السنَّة لا يكون مستواه في الطرح الفكري بالقوَّة اللاَّزمة، ممَّا يؤثر سلباً تجاه الناظرين لتلك المحطَّات الإعلاميَّة لطرح هذا الرجل السُّنِّي، كما أنَّه من اللازم حقيقة لبعض أهل العلم أن لا ينأى بنفسه عن تلك المواجهات بل يغلِّب جانب المصلحة العظمى والكبرى في نصرة أهل السنَّة وقضاياهم، على عدم الخروج بسبب بعض السلبيات أو المفاسد الصغرى، مع الإدراك والمعرفة بأنَّ كثيراً من المهيمنين على الوسائل الإعلاميَّة يأتوننا بمفكرين ومنتسبين للعلم، ليفصِّلوا لنا إسلاماً على المزاج الغربي، أو ما يسمُّونه بـ: (الإسلام الليبرالي)! وما الدعوات السيئة التي تخرج منهم أو من بعض أذنابهم بما يسمى بـ: (تطوير الخطاب الديني) إلاَّ ليصدوا المسلمين عن تمسكهم بدينهم الحق، وليستبدلوا به الانهزامية والتراخي، والذي لن ينصر حقاً ولن يكسر باطلاً، بل مقصوده الأساس تحريف المفاهيم لدى المسلمين، وتحريف المفاهيم أشدُّ خطراً من الهزيمة العسكرية، ومن هنا كانت مخطَّطات أعداء الإسلام (لأنَّ هزيمة الأمَّة في أفكارها تجرِّدها من الحصانة وتتركها فريسة لأي مرض أو وباء فيسهل بعد ذلك احتواؤها وتفكيك معتقديها) كما يقول الأستاذ: محمد قطب ـ في كتابه: واقعنا المعاصر: صـ356).
11ـ ملازمة الجلوس مع الصالحين، والمنتمين لمنهج أهل السنَّة، وقد نهانا رسول الله ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ عن صحبة ضعاف الإيمان، وأمرنا بصحبة المؤمنين فقال: (لا تصاحب إلاَّ مؤمناً)([26]) فينبغي الحذر من الجلوس إلى أهل الزيغ والهوى والالتفات إليهم، وخاصَّة إن كانت خلفيَّة ذاك الجالس مهلهلة في الجانب العقدي، وقد كان أهل السنَّة يوصون تلاميذهم بمجالسة الأخيار والصالحين، والإعراض عن أهل الزيغ والفسق والهوى، ورحم الله الإمام أبا الحسن البربهاري حين قال: (وعليك بالآثار، وأهل الآثار، وإياهم فاسأل، ومعهم فاجلس، ومنهم فاقتبس)([27]).
ويكفي أنَّ من فضائل ذلك أنَّ أصحاب الخير يدلُّون رفقاءهم على سبل الهدى، ولهذا فحين كان ابن القيم يورد على شيخ الإسلام ابن تيميَّة بعض كلام أهل الهوى إيراداً بعد إيراد، أوصاه ابن تيميَّة قائلاً: (لا تجعل قلبك للإيرادات والشبهات مثل السِّفِنْجَة، فيتشربها، فلا ينضحَ إلاَّ بها، ولكن اجعله كالزجاجة المُصمَتَة تمُرُّ الشبهات بظاهرها، ولا تستقرُّ فيها، فيراها بصفائه، ويدفعها بصلابته، وإلاَّ فإذا أَشْرَبْت قلبك كلَّ شبهة تمر عليها صار مقراً للشبهات) ـ ثمَّ قال ابن القيم ـ فما أعلم أني انتفعت بوصيَّة في دفع الشبهات كانتفاعي بذلك)([28]).
12ـ الدراسة الواعية والناقدة للأفكار والملل والنحل المغايرة لمنهج أهل السنَّة، مع التحذير من أهلها، وتمكين العقلية الإسلاميَّة من أدوات الفهم والنظر والمعرفة لرصد الانحرافات الفكرية، ومعالجتها على ضوء الشريعة، وممَّا يبيِّن أهميَّة ذلك أنَّ الله تعالى فصَّل لنا وسائل وأساليب وحجج المجرمين، وردَّ عليها داحضاً لها، فمعرفة المداخل التي يدخل بها أهل الزيغ والهوى لإقناع من يريدون ضمَّه إليهم، أصلٌ نبَّه عليه تعالى فقال: {وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ} [الأنعام:55]، ولهذا يقول حذيفة بن اليمان رضي الله عنه: (كان الناس يسألون رسول الله ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ عن الخير، وكنت أسأله عن الشرِّ مخافة أن يدركني)([29]) فمعرفة الشرِّ وأهله من أهل الذكر ضرورة لتعريته وكشف ألاعيبه، كما يقول قائلهم:
عرفت الشَّرَّ لا للشَّر لكن لتوقيه *** ومن لا يعرف الخير من الشَّر يقع فيه
13ـ إذا شعر المرء أو غلب على ظنِّه بأنَّه قد يُفْتَن في دينه؛ فلا ينبغي له قراءة كتب أهل الهوى والزيغ، ولو قصد بذلك الردَّ عليهم، ومناقشة شبههم، لأنَّ درء المفاسد عن هذا المرء مقدَّمة على جلب المصالح في الذبِّ عن هذا الدين، بل ينأى المسلم بنفسه عن الشبهات، ولا يجعلها متهافتة على قبولها، ويجعل نفسه مطمئنَّة إلى الاستيقان بعظمة هذا الدِّين، وثبات أصوله، فيخلِّي قلبه ونفسه من متابعة الشبهات، ولا يجعلها لاقطة لأي تشكيك في دين الإسلام، ومن تأمَّل قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [الصف:5]، وقوله سبحانه: {يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [الحديد:14]، من تأمل تلك الآيات الكريمة علم أنَّ بعض النفوس تتهافت على منافذ الشبهات والضلالات ـ عياذاً باللَّه ـ وحين بلغ عمر بن الخطَّاب ـ رضي الله عنه ـ أنَّ رجلاً يقال له: صبيغ بن عسْل قَدِمَ المدينة وكان يسأل عن متشابه القرآن، بعث إليه عمر بن الخطَّاب ـ رضي الله عنه ـ وقد أعد له عراجين النخل، فلما دخل عليه وجلس قال: من أنت؟ قال: أنا عبد الله صبيغ. قال عمر: وأنا عبد الله عمر، وأومأ عليه، فجعل يضربه بتلك العراجين؛ فما زال يضربه حتى شجه، وجعل الدم يسيل عن وجهه، قال: حسبُك يا أمير المؤمنين! فقد والله ذهب الذي أجد في رأسي»([30]).
14ـ التربية للنشء بما يرضي الله، والتحاور معهم بتبيين فساد شبهات أهل الزيغ والهوى، مع قوَّة الإقناع، وأدب الحوار، فالتنشئة الصحيحة على التحصين العقدي هي أول عمليَّة في التربية؛ بتربيتهم على العقيدة الصحيحة، وحماية ذواتهم من العبث الفكري، وبناء الشخصية الإسلاميَّة التي لا تؤثِّر فيها تيَّارات التشكيك، وإرسالهم إلى المربِّين الثقات لتربيتهم على أصول ديننا، وقد قال أيوب السختياني: (إنَّ من سعادة الحدث والأعجمي، أن يوفِّقهما الله لعالم من أهل السنَّة)([31]) ليكون أهل التربية معينين لهم على تقوية عقيدتهم، ودرء عبث غزاة الأفكار والعقول عنها، مع التحذير الملازم لهم بخطر الأخذ عن غير أهل السنَّة، وإن استطعنا منعهم من ذلك فهو الأحسن، إلاَّ أنَّ المنع لابد أن يكون بإقناع لهم، وقد يكون منعهم متعذراً في هذا الزَّمن؛ لأنَّهم قد يُمْنَعُون فتأتيهم ردَّة فعل تجعلهم يصرُّون على ما سيطالعونه أو يسمعونه، ولكن الأسلوب التربوي يرجِّح أن يناقش الأب أو المربِّي ذلك الشاب ويبيِّن له أوجه الخطأ التي وقع بها أهل الضلال، فلا منع مطلق، ولا إباحة مطلقة، بل منع معزز بالحجة وفق ضوابط وتحذير ودعم تربوي.
وقد يقول قائل: إنَّ منهج جمع من السلف الصالح منع الناس من سماع البدع والشبهات؛ وذلك هو الأفضل بلا شك، ولكنَّ السلف الصالح في ذاك الزمن كانت قاعدته هي الإسلام وقيمه ومبادئه، وكان الأمر إليهم وبيدهم، وأمَّا الآن فليس لنا من قوَّة الأمة ما كان، وحقيقة فإنَّ النَّاس في هذا الزمن للفتنة أقرب منهم للإسلام، وتربيتهم الآن تكون بقوَّة الكلمة الحقَّة التي تصنع المنهج، وتقنع المخاطب...كما أن التدفق الإعلامي وانتشار وسائل الاتصال وصعوبة تقييدها، يجعل المنع عسيراً وقد يكون مستحيلاً عملياً.
إنَّها حكمة في الأمور وتربية تستدعي التَّأمل والنظر في المآلات {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور:40]. فمن الضروري إذاً أن نبني جيلاً محصَّناً ـ بإذن الله ـ من بذور الشبهات، وفخاخ الشكوك، ليكونوا على قوَّة في دينهم تجاه الهجمات الشرسة التي يواجهها أهل الإسلام من أعدائه.
ولعلِّي في هذا المقام أذكر قصَّة حدَّثتني بها إحدى القريبات الداعيات، توضح كيف أنَّ العامل الثقافي له دوره الرئيس في تشكيل هويَّة النشء، فقد كانت هذه القريبة تُدَرّس المواد الشرعيَّة، وفي أحد الأيَّام دخلتْ على أحد صفوف المرحلة الابتدائيَّة الأولى لتدرِّس الطلاب كتاب التوحيد، وحين بدأت بشرح عقيدة المسلمين بأنَّ الله عالٍ على عرشه، انتفض أحد الطلاَّب وقال: كلا يا أستاذة، فلا يجوز لنا أن نقول: إنَّ الله فوق السماء عالٍ على عرشه، بل هو في كلِّ مكان، ومن قال بأنَّ الله فوق السماء، فقد كفر! فأجابته المعلِّمة قائلة له: لا يجوز أن تقول ذلك لأنَّ اعتقاد المسلمين؛ أنَّ الله عال على عرشه وهو ـ جلَّ وتعالى ـ فوق خلقه، ومن خالف هذه العقيدة فإنَّه كافر، وإياك أن تقول هذا الكلام مرَّة أخرى، فأجابها ذلك الطالب قائلاً: كلا سأقول ذلك، لأنَّ هذه عقيدتي وهكذا ربَّاني والدي وهو شيخ، وأنا مقتنع بكلامه!! وبقيت هذه المعلمة تجادل ذلك الطالب، وفي اليوم التالي جاءت المعلمة إلى الفصل، وحين قالت للطلاب: أخرجوا كتاب التوحيد، رفض بعض الطلاَّب وقالوا: يا أستاذة: كيف تدرِّسيننا هذا الكتاب وفيه كفر، ووالد هذا الطالب شيخ وهو يقولُ بأنَّ كتابنا فيه كفر، وفي أثناء تلك المناقشة الساخنة بين الطلاب ومعلمتهم ، كان الطالب يشير لأصدقائه الطلاب بإشارات النصر، ويوافقهم على حديثهم، ويحرضهم على ألاَّ يُخْرجوا كُتُبَهم من الدروج!
وبعد البحث والتمحيص تبين أنَّ والد هذا الطالب من فرقة الأحباش الضَّالَّة، التي جمعت من الكفريات والضلالات الشيء الكثير، ولو تأمَّلنا كيف أنَّ أهل البدع يدرِّسون أبناءهم العقائد الضَّالة، ويحصِّنونهم ضد أي عقيدة واردة عليهم، بل يدعونهم لمناقشة من يخالفهم، فضلاً عن التحذير منهم ومن كتبهم، ويعلمون أبناءهم الجرأة في الرد والإصرار على الدعوة لملَّتهم ونحلتهم؛ لرأينا من ذلك شيئاً عجباً، فأين أهل السنَّة من تربية أبنائهم بمثل ذلك؟
وأين هم من ترسيخ العقيدة الصافية في عقول أبنائهم وتعليمهم كيف يَثْبُتون عليها ويناضلون عنها؟
إنَّ من المهمات التي يجدر التنبيه عليها، ما للوالدين من كبير الأثر على تنشئة الولد تنشئة إسلاميَّة خالصة من كدر الشبهات والشهوات قدر المستطاع، وتعميق الإسلام وأسسه العقدية في أنفسهم، ووصيَّتهم بالثبات عليه، وممَّا يستدلُّ به لذلك ما قاله تعالى عن الأنبياء والمرسلين حين كانوا يوصون أبناءهم بالثبات على الإسلام، ومن ذلك: {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [البقرة:132]، وكل مولود يولد على فطرة الإسلام، فإن كان الوالدان مسلمين حَصَّناه بترسيخ الإسلام، وإن كانا كافرين فإنَّه لابدَّ أن يكون لهما دور كبير في تحريف فطرة ذلك المولود، وقد أخبرنا ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ بذلك فقال: (كلُّ مولود يولد على الفطرة، وإنَّما أبواه يهوِّدانه أو يمجِّسانه، أو ينصرانه)[32].
ومن جميل الكلام حول طريقة ترسيخ التأصيل العقدي في الطفل الناشئ؛ ما قاله أبو حامد الغزالي رحمه الله: (وليس الطريق في تقويته وإثباته أن يعلم صنعة الجدل والكلام، بل يشتغل بتلاوة القرآن وتفسيره، وقراءة الحديث ومعانيه، ويشتغل بوظائف العبادات، فلا يزال اعتقاده يزداد رسوخاً بما يقرع سمعه من أدلَّة القرآن وحججه، وبما يَرِدُ عليه من شواهد الأحاديث وفوائدها، وبما يسطع عليه من أنوار العبادات ووظائفها)([33]).
وختاماً: ممَّا يحسن التنبيه إليه: أنَّ المستمسك بهذا المنهج يجب أن يكون قوياً في طرحه لدى الناس بتعامل لطيف، مبيناً له بلا عنف، عارفاً للحق، راحماً للخلق، يريد لهم الهداية، بلا جباية أو وصاية، فالحق أبلج، والباطل لجج، وماذا بعد الحقِّ إلَّا الضلال!
نسأله تعالى أن يمنَّ علينا بهدايته، وأن يثبتنا على دينه، وأن يحفظنا من مضلاَّت الفتن ما ظهر منها وما بطن، وأن يهيئ لنا من أمرنا رشداً، وعياذاً بالله أن نكون ممَّن قال فيهم ربُّنا الجليل: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [المائدة:41].
والله المستعان...
______________________
[22]) أخرجه البخاري برقم: (7454).
[23]) أخرجه عبد الرزاق في المصنَّف: (6033)
[24]) المعجم الكبير للطبراني ج16 ص61 وصحيح الترغيب والترهيب 1/10
[25]) البيتان السابقان في: نفح الطيب للمقَّري2/127.
[26]) أخرجه الترمذي(8/418) برقم (2318) وأحمد في مسنده (3/38) وابن حبَّان في صحيحه (3/103) وأبو داود (12/481) برقم4192.
[27]) شرح السنة للبربهاري/ ص102.
[28]) مفتاح دار السعادة(1/443).
[29]) أخرجه البخاري في صحيحه برقم: (3338) ومسلم برقم: (3434).
[30]) أخرجه الآجرِّي في الشريعة/صـ75، واللالكائي بسنده في شرح أصول اعتقاد أهل السنة (4/ 703)وقد صحَّح ابن حجر إحدى روايات هذا الأثر في الإصابة: (5/169) كما ذكره محقِّق كتاب اللالكائي وانظر سسن الدارمي رقم149 ج1 ص164.
[31]) شرح أصول اعتقاد أهل السنَّة والجماعة للالكائي(1/60).
[32]) أخرجه البخاري ومسلم.
[33]) (إحياء علوم الدين1/94ـ95).