
تقديم:
تمر حركة حماس في هذه المرحلة في ظل أجواء الربيع العربي بالعديد من التغيرات المحيطة والتي تتطلب منها أن تغير خطواتها المرحلية خلال الفترة القادمة ؛ فمصر لم تعد عائقاً وبوابة موصدة في وجه حماس ، وتونس تفتح أذرعها لها ، في الوقت الذي يشتد فيه الخناق النفسي عليها في سوريا فهي تحتاج إلى إعادة ترتيب أوراقها من جديد على صعيد الساحة السياسية الخارجية بما يخدم القضية الفلسطينية بشكل أفضل في الأجواء العربية , في ثنايا هذه الحالة أفصح رئيس مكتبها السياسي خالد مشعل عن عدم نيته قبول تكليف جديد له في رئاسة المكتب السياسي خلال الدورة التنظيمية الدورية القادمة , مما أثار العديد من التساؤلات عن التوقيت والمغزى من هذه الخطوة , وهل لها علاقة بالتغيرات الحاصلة في المنطقة ؟ أم أن الأوضاع في سوريا والترتيبات الجديدة لحماس تتطلب منه هذا الموقف ؟
حماس والأزمة السورية
لقد شكلت قرارات حركة حماس بعد الأزمة السورية تغيرات واضحة نابعة عن سياسة الإرباك التي كانت تمر بها الحركة نتيجة الضغوط عليها من قبل الحلفاء السياسيين لها في إيران وسوريا لتقديم موقف داعم للنظام السوري ومؤيد لنظرية المؤامرة التي يسوقها النظام ذريعة لذبح أبناء الشعب السوري ، فكان رفض الحركة لذلك في العديد من المرات ورفضت أن تكون في صف النظام ضد الشعب السوري مما أربك الحركة في بعض المواقف وأوجد بعض التضارب في المواقف مع قيادة غزة ، وهذا كان واضحاً بعد الخطوات التي خطاها مشعل في إعطاء محمود عباس فرص للتفاوض بما يتعارض مع مبادئ الحركة ، وكان الموقف خارج الإجماع القيادي للحركة لقناعتهم بأن المفاوضات عبثية .
وبعد صمت طويل جاءت بعض المواقف من حماس في دمشق أثارت موجة غضب على الحركة من قبل الشعب السوري الذي لام خالد مشعل لحديثه عن الوفاء للنظام السوري والوفاء للشعب ، حيث رفض الثوار في سوريا هذه المقارنة ومما زاد الموقف تعقيداً حمل خالد مشعل رسالة من الجامعة العربية للنظام السوري ، مما أثار حفيظة جمهور حماس الذي كان يرى في الصمت أفضل المواقف تجاه ما يجري في سوريا رغم الدعم الكامل من قبل أفراد حماس للثورة السورية وحقوقها المشروعة في نيل الحرية .
لكن في خضم هذه الأزمة فإن حركة حماس التي غادر معظم قياداتها دمشق لا تريد التفريط في المكتب المتواجد هناك ، لأن حماس تبني علاقتها في اتجاهين : الأول الاتجاه الرسمي والثاني الاتجاه الشعبي وهو الأوسع والأمتن في العلاقة مع الحركة على صعيد الساحات الخارجية هذا من جانب ، أما الجانب الآخر فهي تريد أن تحتفظ بالمكتب للمحافظة على التواجد على الساحة السورية وهي ساحة مواجهة مع الاحتلال ، ودمشق من أقرب العواصم العربية على مدينة القدس بعد عمّان التي حاولت أن تبتز حماس فرضت حماس بقيادة مشعل هذا الابتزاز.
هذه الظروف التي تعيشها الحركة جعلتها تحتاج إلى إعادة ترتيب في بعض الأماكن وصياغة المرحلة الجديدة بطريقة قد تكون مختلفة عما سبق مستفيدة من التحولات العربية لصالح القضية الفلسطينية ، ونقل مقر قيادة المكتب خارج سوريا هو خطوة التفافية على الأوضاع هناك ، ولذلك كان قرار مشعل بألا يكون في الصورة رغم أن قراره قد سبق ذلك إلا أن الأزمة السورية كان له دور كبير في تعزيز القرار لديه .
الخيار الأمثل مرحلياً
مما لا شك فيه بأن سقوط النظام في مصر عزّز دور قطاع غزة بشكل كبير جداً في المحافل الخارجية وعلى الساحات العربية ، وكان هذا واضحاً من خلال الاستقبالات الكبيرة التي حظي بها رئيس الوزراء إسماعيل هنية ، فلم يعد معبر رفح معيق أمام الحركة ولم تعد قيادات حماس هناك تتعرض للضغوط من قبل النظام مما يعطل التنقل بين القطاع والخارج ، وخلال عام من الثورة شهد قطاع غزة حركة نشطة لقوافل كسر الحصار رغم بعض القيود عليها ولكن هناك تغير في التعامل مع حركة حماس التي أعطت دوراً رئيسياً لمصر في صفقة التبادل بين الحركة والكيان الصهيوني .
سهولة التنقل والعيش في منطقة تسيطر عليها الحركة تخرجها من العديد من الضغوط أو الحسابات التي كانت تؤرق القيادة في الخارج ، فلا يمكن أن تكون هناك عقبات أو ضغوط لا على الحركة ولا على الدول المضيفة مما يعطي غزة الآن الساحة الأجدر في تولي قيادة المكتب السياسي رغم بعض التحفظات الأمنية ، كما أن تجربة الحرب الإسرائيلية على غزة فشلت في إخضاع قيادة الحركة وفشلت في استهدافها ، ولا يمكن أن يكون المبرر الأمني عائقاً فالاستهداف الإسرائيلي قد وصل إلى قلب العاصمة دمشق عند اغتيال عماد مغنية القائد العسكري لحزب الله ، وقد سبقه اغتيال عز الدين الشيخ خليل أحد قيادات حركة حماس العسكريين .
لم أرغب في الحديث عن الشخصيات التي من الممكن أن تتولى دفة القيادة ولكن هناك في غزة قيادات تمتلك حقاً القدرة على القيادة سواء على المستوى السياسي أو حتى بعض الشخصيات العسكرية ، والتي تنأى دائماً بنفسها عن المواقع السياسية نتيجة الفصل بين العمل السياسي لحماس والعمل العسكري ، ولكن ذلك لا يغفل أن هناك قيادات عسكرية قادرة على قيادة المكتب السياسي ولعل تجربة المفاوضات التي كانت تُدار من قبل القيادة العسكرية في ملف صفقة التبادل مع الاحتلال أثبتت بأن القيادة العسكرية تمتلك نظرة ثاقبة وقدرة على إدارة أعقد الملفات وتمتلك الحنكة الكافية والعالية لرئاسة المكتب السياسي .
التموضع في المرحلة القادمة ؟
لقد سجلت سنوات العقد الماضي علاقات مميزة لحركة حماس مع سوريا وإيران وحزب الله وقد تعمقت هذه العلاقة بعد تراجع العلاقات المتواصل للدول العربية مع حركة حماس ، ولعل تصنيف حماس كمنظمة إرهابية وربما النقطة الفارقة في العلاقة كانت التحولات العالمية في مكافحة الإرهاب بعد هجمات سبتمبر عام 2001م ، ومن ثم طرح المبادرة العربية مما زاد الفجوة في العلاقة بينهم ، ومما ضاعف حالة التراجع هو التوتر الذي ارتفعت وتيرته بين الدول العربية و الخليجية بالذات مع إيران ، مما فاقم الموقف مع حماس التي خُيِّرَت كثيراً بين العلاقات مع بعض الدول مقابل قطعها مع إيران ، ولكن إدارة حماس لهذا الملف كانت مختلفة حيث لم تحصل قطيعة مع هذه الدول رغم الجفاء وظلت تحتفظ بجو علاقات وإن كانت متدنية رغم تأكيدات حماس مراراً أن العمق العربي والإسلامي هو أولوية لحركة حماس .
هذه العلاقة الملتبسة جعلت الحركة تفكر اليوم بتغيير التوازن في العلاقات من جديد في ظل التغيرات التي تشهدها المنطقة ، فالحلفاء السابقين جميعهم يقع في مشاكل معقدة وإن كانت دمشق تعيش الظروف الأكثر سخونة في ظل الضغط الشعبي الكبير الذي يتعرض له النظام والذي يعاني يوماً بعد يوم .
الانفتاح على دول الربيع العربي وعلى رأسها مصر والآفاق الجديدة في تونس وتطور العلاقة مع تركيا بطريقة تجعل الحركة تنفتح بشكل أوسع على الدول الخليجية مع الاحتفاظ بالعلاقة مع إيران وحلفائها ، ولعل جولة إسماعيل هنية المرتقبة التي ستشمل قطر والبحرين والكويت بالإضافة إلى إيران تأتي في هذا السياق , وهذا مهم ومطلوب من أجل إعادة القضية الفلسطينية على الطاولة العربية بشكل أوسع ، وأعتقد بأن هذه التغيرات إن نجحت حماس في كسبها إلى صفها فإنها ستعزّز مكانة الحركة عربياً في ظل صعود التيارات الإسلامية في دول الربيع العربي ، ومن المهم أن تحافظ حماس على علاقات واسعة مع النظام السوري الجديد في حالة سقط النظام أو نجحت المبادرة ، فبجميع الأحوال فالأوضاع في سوريا ستتغير مما سيمكّن دوراً أكبر للحركة في الحضن العربي .
الخلاصة :
خطوة خالد مشعل قد تكون جادة من قبله ، وهو يدرك بأن المرحلة تحتاج إلى تغيير في السياسات ويشعر بأن الإرباك الذي حصل من الموقف في سوريا والتغيرات الحاصلة تحتاج إلى تجديد ، وهو اكتفى بما قدم في موقعه مما دفعه لأخذ القرار بألا يكلّف مجدداً هذا احتمال ، أما الاحتمال الثاني فهو محاولة مشعل نيل ثقة أكبر في قيادة الحركة في المرحلة القادمة ولكنه كان يحتاج إلى تجديد أوسع لهذه الثقة وإن كان الاحتمال الأول هو الأرجح , أو ربما هناك ما يدور في الخفاء حول تكليفات جديدة لها علاقة بتنظيم الإخوان المسلمين في فلسطين ، ولكن يبقى هذا في إطار التكهن وقد يكون بعيداً عن الاحتمالين السابقين .
على كل الاحتمالات فإن حركة حماس مقبلة باعتقادي على تجديد واسع في صناعة القرار وفي العديد من مواقعها سواءً الشورية أو التنفيذية ، وسيكون هناك قيادات ووجوه جديدة سواءً في الداخل أو الخارج ، فصفقة التبادل التي تمت بين حماس وإسرائيل والتي أفرجت عن عدد كبير من قيادات حركة حماس في السجون ستعزّز المواقع القيادية لحركة حماس مع وجود هذه الوجوه التي تتمتع بقوة تنظيمية كبيرة وحضور بين أبناء حركة حماس ، مما سيعطيهم حضوراً في المواقع المتقدمة على حساب العديد من الوجوه البارزة في الداخل والخارج ، لذلك من المرجح أن تشهد الحركة تغيرات واسعة في السياسات الداخلية والخارجية حتى لو تم تجديد التكليف لخالد مشعل فيسكون لقيادات السجون السابقين دوراً قد يكون مفصلياً في صنع القرار.