هذا كتاب منشور منذ زمن غير قليل، لكن أهميته تجعله موضع اهتمام الباحثين والمثقفين وعامة القراء بصرف النظر عن زمن النشر فمصطلح الوسطية شديد الانتشار والذيوع في عصرنا الحاضر، لكن استخدامه غير منضبط فبعضهم يضعه في غير سياقه ليحرف الكلم عن مواضعه، ويخرج على الناس بـ"إسلام مستنير" يلائم غايات الغرب العدوانية ويجاري أهواء التغريبيين بحيث لا يبقى من المصحف إلا رسمه ولا من الإسلام إلا اسمه!!
وقد اكتسب الكتاب قيمة إضافية من كون مؤلفه هو الباحث المرموق الشيخ محمد علي الصلابي المعروف بجديته ورصانته بعامة وهذا لا يعني عدم وقوعه في خطأ غير متعمد أو اجتهاد غير سديد فذلك شأن البشر غير المعصومين!!، كما أن الكتاب في أصله رسالة علمية نال بها درجة الماجستير من جامعة الإسلامية، تحت إشراف الدكتور مبارك محمد أحمد رحمة.
ويجب على المستفيدين أن يشكروا للأستاذ عادل محمد إتاحة الكتاب لهم في صيغة إلكترونية بهية وحسنة الفهرسة وسهلة التعامل.
بعد عرض المعاني اللغوية لكلمة وسط، يعرج الباحث على الكلمة نفسها وتصريفاتها المختلفة في الاستعمال الشرعي كما في قول العزيز الحكيم في كتابه الكريم: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [البقرة:143].
ثم يحرر الصلابي معنى الوسطية قائلاً: من خلال ما سبق اتضح لنا أن كلمة (وسط) تستعمل في معان عدة أهمها:
-بمعنى الخيار والأفضل والعدل.
-قد ترد لما بين شيئين فاضلين.
وتستعمل لما كان بين شيئين وهو خير.
وتستعمل لما كان بين الجيد والرديء، والخير والشر.
وقد تطلق على ما كان بين شيئين حسا، كوسط الطريق، ووسط العصا، وقد تأتي لمعان أخرى قريبة من هذه المعاني والمهم –هنا- متى يطلق لفظ (الوسطية) بل على ماذا يطلق هذا المصطلح؟ فهناك من جعل مصطلح الوسطية مرادفا للفظ الخيرية، ولو لم يكن بين شيئين حسا أو معنى.
قال فريد عبد القادر: ومن جملة ما سبق بيانه نستطيع أن نستخلص تعريفا خاصا محدد للوسطية، فنقول: بأن الوسطية هي: مؤهل الأمة الإسلامية من العدالة، والخيرية للقيام بالشهادة على العالمين، وإقامة الحجة عليهم ثم قال: أما ما شاع عند الناس وانتشر من الوقوف عند أصل دلالتها اللغوية، أي التوسط بين طرفين، مهما كان موضوع هذا الوسط –الذي تم اختياره- من صراط الله المستقيم، التزاما وانحرافا، فليس بمفهوم صحيح وفق ما تبينه الآيات والأحاديث.
ويؤكد هذا المعنى في محل آخر فيقول: ولا يلزم لكل ما يعتبر وسطا في الاصطلاح أن يكون له طرفان، فالعدل وسط ولا يقابله إلا الظلم، والصدق وسط ولا يقابله إلا الكذب.
وهناك من جعل (الوسطية) من التوسط بين الشيئين دون النظر إلى معنى الخيرية التي دل عليها الشرع.قال الأستاذ فريد عبد القادر: (وقد شاع كذلك عند كثير من الناس استعمال هذا الاصطلاح الرباني، استعمالا فضفاضا يلبس أي وضع أو عرف أو مسلك أرادوه، حتى أصبحت الوسطية في مفهومهم تعني التساهل والتنازل.
وما ذكره الأستاذ فريد في تعريفه للوسطية، وكذلك ما نقله عن غيره ففيه نظر، ويتضح ذلك فيما سيأتي: لأن المتأمل في ما ورد في القرآن والسنة والمأثور من كلام العرب فيما أطلق وأريد به مصطلح الوسطية يتضح له أن هذا المصطلح لا يصح إطلاقه إلا إذا توفرت فيه صفتان:
1-الخيرية: أو ما يدل عليها كالأفضل والأعدل أو العدل.
2-البينية: سواء أكانت حسية أو معنوية. فإذا جاء أحد الوصفين دون الآخر فلا يكون داخلا في مصطلح الوسطية، والقول بأن الوسطية ملازمة للخيرية –أي أن كل أمر يوصف بالخيرية فهو (وسط) – فيه نظر، والعكس هو الصحيح، فكل وسطية تلازمها الخيرية، فلا وسطية بدون خيرية، ولا عكس فلا بد مع الخيرية من البينة حتى تكون وسطا.
وكذلك البينية – أيضًا- فليس كل ما هو بين شيئين أو أشياء يعتبر وسيطا وإن كان وسطا، فقد يكون التوسط حسيا أو معنويا، ولا يلزم بالوسطية كوسط الزمان أو المكان أو الهيئة ونحو ذلك؛ ولكن كل أمر يوصف بالوسطية فلابد أن يكون بينيا حسا أو معنى.
ومن هنا نخلص إلى أن أي أمر اتصف بالخيرية والبينية جميعا فهو الذي يصح أن نطلق عليه وصف: الوسطية، وما عدا ذلك فلا، وإلى هذا الرأي ذهب الدكتور ناصر بن سليمان العمر في كتابه الوسطية في ضوء القرآن.
ويستدل الصلابي لصحة رأيه بما وصف الله به هذه الأمة من وسطية في قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة: 143]، إذ صح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه فسر الوسط بالعدل. وفي رواية: عدولا والمعنى واحد.