الوقف في الحضارة الإسلاميّة والحاجة إليه اليوم
3 صفر 1434
د. محمد العبدة

عند الحديث عن الوقف وأهميته في كل العصور لا بد أن نذكر شيئا مهما متميزا في هذه الحضارة، وهي الفرق بين التاريخ السياسي للمسلمين في بعض الأزمنة وبعض الأمكنة، والتاريخ الحضاري للأمة، التاريخ السياسي فيه صعود وهبوط، وفيه هضاب ووديان، فيه رحمة وعدل وفيه استبداد وسفك للدماء وتبديد للثروة، الكتب المتداولة بينن أيدي الطلبة في المدارس تركز على التاريخ السياسي: أسماء الملوك وتقلبات الدول، ولكن التاريخ الحضاري كان مختلفا فرغم ضعف الدول وتشظي الدولة العباسية إلى دول منقطعة كان التاريخ الحضاري مستمرا، العلماء الذين بنوا صرح الفقه الإسلامي، والعلماء الذين كشفوا أسرار الداء والدواء، كانوا موجودين، والمدارس وحلقات العلم في المساجد كانت مستمرة، أسماء لامعة في علوم الشريعة من فقه وأصول وحديث ولغة. وأسماء لامعة في الطب والهندسة وعلم النبات وعلم الفلك.

 

إن أعظم الجامعات والمدارس والمشافي وجدت بعد القرن الرابع، في هذه الحضارة كان في قرطبة (600) مسجد و (300) حمام عمومي و (20) مكتبة عامة ( لا يوجد الان في أي عاصمة عربية أكثر من مكتبة أو مكتبتين ) في هذه الحضارة بقي مفهوم (الأمة) حيا على مر العصور، كانت الأمة موحدة، يذهب العالم من الشرق إلى الغرب يجد نفسه بين أهله وأخوانه (لا يوجد جوازات سفر ولا تأشيرات ولا إقامات).

 

هذه الظاهرة –وأعني الفرق بين السياسي والحضاري-  قد لا توجد عند أمم أخرى أو حضارات أخرى فالغالب عند هذه الأمم أن التقدم الحضاري مرهون بالتقدم السياسي، ذلك لأن الحضارة الإسلامية بنيت أساسا على الدين، وهذه الدين يدفع الأفراد لحب العلم والإنفاق في وجوه الخير، والتعاون على البر والتقوى، فجذوة الدين باقية والأخلاق التي تحفظ الأسرة باقية، وهذا الدين هو الذي حفظ الأمة من الغزاة الذين جاءوا من الشرق والغرب. لعبت المؤسسات الأهلية مدعومة بالوقف دورا كبيرا في حفظ الهوية الإسلامية، فالمدارس والمشافي والرباطات ومساعدة المحتاجين، كل ذلك كان في الغالب من عمل هذه المؤسسات ومن الأفراد وليس من الدول.

 

دور الوقف في هذه الحضارة
ساهم الوقف باعتباره صدقة جارية في تنمية شتّى مناحي الحياة الاجتماعية والعلمية والثقافية، كان الوقف هو الحجر الأساس الذي قامت عليه كل المؤسسات الخيرية ومن هذه المؤسسات:

 

1- التكافل الاجتماعي
فرض الاسلام نفقات معينة على على الموسورين لأقربائهم المحتاجين تحقيقا لمبادئ التكافل الإجتماعي وجاءت مؤسسة الوقف زيادة على ذلك لتهتم بهذا الجانب اهتماما كبيرا، فقد تضمنت وثيقة السلطان حسن الوقفية في العهد المملوكي: خلاص المسجونين، وتسبيل الماء العذب، والصدقة على الفقراء والأرامل والعميان وأرباب العاهات، وكذلك رعاية النساء المطلقات، وفي عهد السلطان صلاح الدين خصص وقف لامداد الأمهات بالحليب اللازم وجعل هذا في أحد أبواب قلعة دمشق ميزابا يسيل منه الحليب، وميزابا يسيل منه الماء المذاب بالسكر، ومن هذه الخدمات الاجتماعية بناء الخانات والفنادق للمسافرين المنقطعين، ومساعدة الفقراء على الزواج، والأوقاف الخاصة بإنارة الدروب المظلمة، وإصلاح الطرقات والجسور.

 

2- الرعاية الصحية
خصص أهل الخير وأغنياء المسلمين الأوقاف الواسعة لإنشاء المستشفيات، وتطوير مهنة الطب والصيدلة، ومن الأمثلة على ذلك: المستشفى المنصوري في مصر، والمستشفى النوري في دمشق، كان العلاج والدواء مباح لكل مريض يقصده، وهذه المشافي مزودة بالخدم وإطعام المرضى، وزيادة على ذلك إذا برئ المريض يتلقى منحة وكسوة وقد أوقفت زوجة السلطان سليمان القانوني العديد من المحلات التجارية للإنفاق على المستشفيات. وقد وصلت الرعاية الصحية للحيوانات، ففي مدينة فاس أسس مشفى لعلاج الطيور، وفي دمشق خصصت أوقاف لتطبيب الحيوانات المريضة وأراض لرعي الحيوانات المسنة العاجزة التي تخلى عنها أصحابها. ومنها أرض المرج في دمشق ( الملعب البلدي وساحة المرجة اليوم)

 

3- المدارس
كان بناء المدارس من أهم المؤسسات الخيرية، ومن أفضل ما قدمته مؤسسة الوقف، ومن أشهر المدارس تلك التي أنشأها وأوقف عليها الوزير القدير (نظام الملك) فلم يترك مدينة إلا وأسس فيها (نظامية) وأشهرها نظاميّة بغداد (جامعة) وقد درّس فيها الإمام الغزالي، ونظامية نيسابور ودرّس فيه شيخ الغزالي الإمام الجويني. ومن الجامعات المشهورة المستمرة حتى الان جامعة الأزهر وأوقافها كثيرة (سرقت في عهد الضباط) وكذلك جامعة القرويين في المغرب وجامعة الزيتونة في تونس. ففي عصر الموحدين كانت معظم مباني مدينة فاس وقفا على جامعة القرويين

 

4- المكتبات
عن هذه الروح الحضارية انتشرت المكتبات في شتى أنحاء العالم الإسلامي، فمن النادر أن نجد مدرسة ليس بجوارها مكتبة، ونتكلم عن المكتبات العامة التي ينشئها أهل الخير وتكون وقفا على طلبة العلم وعموم الفقراء وليس عن المكتبات الخاصة التي توجد في غالب البيوت كما كان الحال في مدينة قرطبة، كانت هذه المكتبات العامة تحتوي على غرف للمطالعين، وقاعة للدراسة والبحث العلمي، وخازن للمكتبة يكون عادة من العلماء، وطائفة من النساخ الذين ينسخون الكتب المهمة، ومجلدون يهتمون بالكتاب حتى يحفظ لمدة طويلة. وكان في قرطبة وحدها عشرون مكتبة عامة، أما الخاصة فيكفي أن نذكر مكتبة الخليفة الأموي الحكم بن عبد الرحمن الناصر التي بلفت أربعمائة ألف مجلد، وبلغت خزانة الكتب في عهد الدولة الحفصية في تونس ستة وثلاثون ألف مجلد، وقد أتلف الأسبان عندما احتلوا مدينة غرناطة، أتلفوا مليوني مجلد حسب تأكيد أحد المستشرقين الأسبان المعاصرين.
هذه أمثلة عن الوقف، والحقيقة أنه تعدّى إلى كل مجالات الحياة مثل الرباطات للمجاهدين والقرض الحسن للتجار...إلخ.

 

مصادر الإهتمام بالوقف
المصدر الأول هو القران الكريم، فالسور المكية التي كانت من أوائل ما نزل تتحدث عن الذين يمنعون الماعون ولا يحضون على طعام المسكين (أرأيت الذي يكذب بالدين، فذلك الذي يدع اليتيم ولا يحض على طعتم المسكين) وقوله تعالى (امنوا بالله ورسوله وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه) أي أن الأموال التي في أيديكم، إنما جعلكم خلفاء في التصرف فيها فانفقوا  منها في حقوق الله. وقول الرسول صلى الله عليه وسلم (المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه، من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنها كربة من كرب يوم القيامة.) وقول الرسول صلى الله عليه وسلم (من مات وترك مالا فلأهله ومن ترك دينا أو ضياعا فإليّ وعليّ)

 

هذه الآصرة من الأخوة والألفة والقرب نتج عنها خلق المواساة بين المهاجرين والأنصار، ونتج عنها الصدقة والعارية والهبة والمنحة، يقول الصحابي الجليل عبد الله بن عمر "لأن أمشي مع أخ في حاجة أحب إلي من أن أعتكف في هذه المسجد شهرا".

 

هذا الدينهو  الذي يقول نبيه صلّى الله عليه وسلم (ما آمن بي من بات شبعان وجاره جائع بجنبه وهو يعلم) ويقول: (إذا مات المرء انقطع عمله إلا من ثلاث صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له) ويقول الإمام ابن حزم أحد علماء هذا الدين الذين هم ورثة الأنبياء: "فرض على الأغنياء إن لم تقم الدولة بذلك أن لا يبيت مسلم جائعا وأن يكسى في الصيف والشتاء، وأن يكون له منزل يؤويه.." ولعل قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر رضي الله عن حين أراد التصدق بأرض له في خيبر: (حبّس الأصل وسبّل الثمرة) كان أول وقف في الإسلام. كما أن فقه المسلمين لموضوع فروض الكفايات، وأنه لا بد من قيام البعض بها لتسقط عن الاخرين، مما شجع وساعد على قيام المؤسسات الكبيرة من أموال الوقف.

 

مقاصد الشريعة
تكلم العلماء عن الضروريات الخمس التي هي من مقاصد الشريعة وهي حفظ: الدين والنفس والمال والنسل والعقل، وقالوا هذا من استقراء الشريعة، وهذا الضروريات مما اتفقت الأمة عليها، لأن هذه المصالح لا بد منها لقيام أمور الدين والدنيا، بحيث إذا فقدت لم تجر مصالح الدنيا على استقامة، بل ينخرم أصل التكليف، فلو عدم الدين لعدم الجزاء المرتجى في الاخرة . ولو عدم النفس لعدم ممن يتدين. ولو عدم العقل لارتفع التديّن.. وهكذا، والاسلام توجه بالخطاب إلى الإنسان من حيث كونه إنسانا، ولذلك قرر أن هناك ما يشترك فيه البشر من حفظ النفس وحرية المعتقد .

 

أما الذين استجابوا لهذا الدين فنشأت بينهم صلة خاصة (الأخوة الدينية) ونشأ مجتمع ديني قوي، وعندما فقه المسلمون هذه المقاصد الشرعية وما يتبعها مما يحفظ بها، كان هذا دافعا لهم لتطبيقها، فحفظ العقل مثلا لا يعني منع المسكرات والمخدرات وحسب ولكن هناك الجانب الاخر وهو حفظه بالعلم والمدارس والتفكر في خلق الله، وحفظ النفس ليس بمنع القتل وتشريع القصاص فحسب ولكن أيضا بتأمين الحياة الكريمة لهذه النفس، وحفظ المال بمنع السفه والتبذير وكذلك بإنفاق المال في وجوه الخير واستثماره بما ينفع الأمة. فهذه الشريعة تحمي الإنسان وكل إنسان من أن ينتهب ماله أو يقتحم مسكنه أو أن يخرج من وطنه... وبعض هذه الأوقاف استمر إلى عهد قريب، ففي دمشق كانت تكية السلطان سليم توزع الطعام على الفقراء.

 

ظهر في السنوات الأخيرة مؤسسات خيرية كثيرة ، بدأت تنظم أمورها وتعتمد على الوقف وليس على الدعم من الأفراد فقط وبدأ الحديث قويا عن العمل الخيري وعن الوقف الذي سيكون له الدور الأكبر في الواقع لأن متطلبات الحياة تشعبت وكثرت والدولة تعجز –إذا مانت دولة صالحة ومستقيمة – عن ايفاء الخدمات الأساسية للناس.

 

نحن اليوم بحاجة ماسة لإحياء دور الأوقاف في بلاد المسلمين واستخدام مداخيلها في تنمية المجتمعات وإحياء رسالة الإسلام في التعاون على الخير، بعد أن حارب الاستعمار المؤسسات الوقفية وأكمل نهبها الذين جاءوا بعده من العساكر الذين حكموا بلاد المسلمين. والحديث عن الطريق الثالث ما بين العمل الفردي والعمل الحكومي أصبح حديثا عاما، والغربيون يتحدثون عنه ويكتبون عنه، وهم يمارسونه بقوة، فكثير من المؤسسات الغربية العلمية وراءها تبرعات وأوقاف على طريقتهم وأعرافهم. بل إن أغنياء الغرب يتبرعون بسخاء للمؤسسات الطبية وغيرها، وبعضها للتبشير بالنصرانية، ويكفي أن نذكر ما تبرع به صاحب شركة (مايكروسوفت) إلى المؤسسة الخيرية التي أنشأها هو وإلى مؤسسات أخرى وكان التبرع بالاف الملايين من الدولارات.