البابا الأبتر حين يطويه النسيان
21 ربيع الثاني 1434
أمير سعيد

الآن قد تقاعد، وهو أبتر، لا عقب له ولا ذكر..
هل سيذكرونه بعد أسابيع؟! ربما لفترة وجيزة، لكن أي ذكر سيبقى له مع انتخاب بابا جديد للكاثوليك في كنيسة روما..سيدون اسمه في موسوعة ويكيبيديا الشعبية أو تبقى بعض التقارير تتحدث عنه، غير أنها سرعان ما ستندثر ويطويها النسيان؛ فعالم المحفوظات لا يكون حياً إلا إذا صار "مذكوراً" تنطق به الألسن ولا تطويه الصفحات..

 

هكذا سيكون بندكت، أو "المبارك" – كما هي ترجمة اسمه المختار -، الذي حلت "بركته" على كنيسته فانفضحت؛ فصار أشبه بمسيلمة الكذاب الذي بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تفل في عين بها رمد فبرأت؛ فتفل في عين مريضة فأصيبت بالعمى!
سيكون مندثراً مدحاً وإشادة وحديثاً، وسيمضي بلا ذرية قد ترفع عنها فترفعت عنه..

 

هذا هو حكم الله في كل شانئ لرسوله صلى الله عليه وسلم، وقبل سنين وعقب تولية "الكرسي الرسولي" بالفاتيكان استشهد بمقولة منسوبة إلى امبراطور بيزنطي في حوار له مع "مثقف فارسي" دار في القرن الرابع العشر، يقول فيها الأول للأخير: "أرني ما الجديد الذي جاء به محمد. لن تجد إلا أشياء شريرة وغير إنسانية مثل أمره بنشر الدين الذي كان يبشر به بحد السيف".

 

إنه الآن يتضاءل مع قوته المنهارة، مثلما قال هو عن نفسه بمعنى آخر "أغادر المنصب لأن قوتي تضاءلت"، بينما من مات قبل أربعة عشر قرناً يلهج الناس بذكره حتى الآن.. فأين سيف لم يزل ينشر الإسلام حتى اليوم في قلب أوروبا وعلى بعد خطوات منك حيث يدخل الدين الحق إلى داخل ردهات الفاتيكان نفسه؛ حيث تتسرب المعلومات عن إسلام قساوسة على بعد خطوات من "الكرسي الرسولي".. أين سيف محمد صلى الله عليه وسلم الآن في أوروبا، أيشتكون منه؟! أم بيان يسحر الألباب فيها؛ فيخضع لمنطقه المؤمنون، وينسحب من مواجهته من تضاءلت قوتيه الجسدية والمعنوية حياله وبين يديه مقر الناتو في إيطاليا ذاتها؟!

 

في كل غداة وعشية، في كل لحظة تمر في أقطار الدنيا، يقف مؤذنون فوق المنارات يصدحون "..وأشهد أن محمداً رسول الله".. تبلغ عنان السماء، وتشق طبقات الأرض، أو يقف خطباء فيجلل اسم الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم في جنبات المساجد وحواليها، يرطبون بها ألسنتهم ويجلون بها الأسماع، يزهو بذكرها السامعون، أن ينتسبوا إلى خير من سار على الثرى.. ثم لا يسع الخطباء إذ ذاك أن يتجاوزوا ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإلا صارت خطبتهم "بتراء"، وكيف يتجاوزونه وهو إمامهم، أو كيف ينسون اسمه المنقوش في أفئدتهم..

 

يلهج المسلمون بذكره في الأرجاء، يردد الجميع اسمه الكريم بحب وإجلال، تود الملايين لو أن لها برؤيته كنوز الدنيا.. يتيهون في صفحات التاريخ والسير علها تعيدهم إلى حياة بسيطة إلى جوار خير خلق الله، ينعمون برفقته.. يذوبون شوقاً للقياه، وحرقة لفقدانه؛ فيبكون حين يذكرون ساعة أن غاب عن دنياهم وكأنها الساعة الماضية..  ولا غرو، فلقد تكفل له الله بالرفعة، وكما يقول النيسابوري:" قال بعض أهل العلم : إن الكفار لما شتموه بأنه أبتر أجاب الله عنه من غير واسطة فقال { إن شانئك هو الأبتر } وهكذا سنة الأحباب إذا سمعوا من يشتم حبيبهم تولوا بأنفسهم جوابه [النيسابوري جـ 7 صـ 387،388]، فكيف يدنو قدر من قال عنه الجبار القائل للشيء كن فيكون: "ورفعنا لك ذكرك"؟! وكيف لمن يحبه الله أن يضيع ذكره، وكيف لمن رد الله عنه تخرصات المغرضين الآثمين ألا يكون ذكره في الناس ذائعاً وقامته بين الأنام سامقة؟! يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "إنه سبحانه يبتر شانئ رسول الله صلى الله عليه وسلم من كل خير فيبتر أهله وماله فيخسر ذلك في الآخرة ويبتر حياته فلا ينتفع بها ولا يتزود فيها صالحاً لمعاده ويبتر قلبه فلا يعي الخير ولا يؤهله لمعرفته تعالى ومحبته والإيمان برسله عليهم السلام ويبتر أعماله فلا يستعمله سبحانه في طاعته ويبتره من الأنصار فلا يجد له ناصراً ولا عوناً ويبتره من جميع القرب فلا يذوق لها طعماً ولا يجد لها حلاوة وإن باشرها بظاهره فقلبه شارد عنها وهذا جزاء كل من شنأ ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم لأجل هواه "، إنها حقيقة تنسحب على جميع من تعرض بنقيصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وتبدو جلية أكثر في المشاهير الذين تصدق نهاياتهم المعنوية والحسية هذا الانبتار، يقول الإمام الألوسي في تفسيره عنه هو عين الحقيقة، إن "مبغضك كائناً من كان هو الأبتر الذي لا عقب له حيث لا يبقى منه نسل ولا حسن ذكر وأما أنت فتبقى ذريتك وحسن صيتك وآثار فضلك إلى يوم القيامة ولك في الآخرة ما لا يندرج تحت البيان" [الألوسي جـ 23صـ155]، لقد طعن بندكت في رسالة محمد صلى الله عليه وسلم؛ فتخلى هو نفسه عن "كرسيه الرسولي" المزعوم، ليبدأ رحلة النسيان والاضمحلال..

 

ظن بندكت أنه شيء يستحق أن ينتقد سيد البشر، واجتهد أن يوقف انسياب دين جاء به النبي صلى الله عليه وسلم في قلب أوروبا و"مستعمراتها"، فكان شأنه كشأن غيره من الحمقى "يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم ويأبي الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون"؛ فيا لحمق الطين حين يظن نفسه عسجداً، ويا لبؤس من قاده كبر إلى منزلق الحضيض، ويا لانبتار قول أوعمل يقوم على محاداة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
كم سيبقى ذكرك بعدك أيها المغبون؟! سنة أو سنتين.. عقد أو عقدين؟! بل كيف سيذكرك الناس، كنجم يهدي أم كغراب يدل على جيف الكلاب؟! إنها الحقيقة التي لا يدركها جيش من المبطلين إذ يناطحون صخرة الإيمان، ويريدون أن ينالوا من سيرة خير الأنام، أن يضيع ذكرهم في الناس أو تلاحقهم اللعنات، تماماً مثلما يوضح الزمخشري بجلاء حين يقول: "إنما الأبتر هو شانئك المنسي في الدنيا والآخرة، وإن ذكر ذكر باللعن." [الزمخشري/الكشاف جـ 7 صـ 331]، فقد يكون لهم في الأرض ذكراً، غير أنه ذكر المذلة والخزي، مثلما ذكر الله أبي لهب في كتابه قرآناً يتلى إلى قيام الساعة، حينما دعا بالفقر والمذلة على نبي الله صلى الله عليه وسلم، فلاحقه الذل والصغار إلى قيام الساعة، بل إلى ما بعدها حين ينادي الله سبحانه أهل القرآن أن ارق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا، فيقرأ القرآن ويردد : "تبت يدا أبي لهب وتب ما أغنى عنه ماله وما كسب سيصلى ناراً ذات لهب.."

 

سيظل المؤذنون في كل لحظة يصدحون "أشهد أن محمداً رسول الله"، وتبقى تظل سنة الله جارية في رسوله وفي مبغضيه.. "ورفعنا لك ذكرك".."إن شانئك هو الأبتر"..