الخطر الإيراني.. ماذا بعد؟
28 جمادى الثانية 1434
صلاح بن جميل القرشي

لا يشك عاقل -ممن له أدنى اطلاع على التغيرات الإقليمية الجارية في منطقة الشرق الأوسط- في خطورة التطلعات التوسعية الإيرانية, فأغلب الدول المحيطة لم تعُد تخلو من أماكن تمتد فيها الأذرع الصفوية, بَدءًا بالعراق والشام، ومرورًا بالسودان ودول القرن الإفريقي -كامتداد سياسي- لتلتف عبر باب المندب إلى اليمن، مكملة الطوق حول جزيرة العرب. وهي الآن تسعى جاهدة لمد نفوذها إلى مصر التي لا زالت تمثل ثغرة في ذلك الطوق، مستغلة الظروف العصيبة التي تمر بها كافة المنطقة، بل إن مسرح الشرق الأوسط لم يعد كافيًا لطموحاتها الضاربة في عمق التاريخ الفارسي؛ فنفوذهم قد امتد ليصل إلى إندونيسيا، وجزر القمر، ونيجيريا، وغيرها من الدول التي لم يكن للشيعة أي تواجد فيها قبل عدة عقود.

 

 

ولكن، هاهنا سؤال كثيرًا ما ألح عليَّ:

ترى؛ هل معرفتنا بهذا الخطر الصفوي بجميع أبعاده، وكثرة حديثنا عنه عبر وسائل الإعلام ومنابر المساجد، كافية لتجنبه؟

 

 

لا أشك في أهمية التوعية بالأخطار المحيطة بنا، وضرورة استمرارها، ولكن هاهنا أربعة أمور يجدر التنبيه إليها:

أولاً: يجب أن نعلم أن مجرد المعرفة بهذا الخطر والحديث عنه مهما بلغ حجمه ليس من ضمن الأسباب الحقيقية التي تجنبنا ذلك الخطر، وإنما هي وسائل للتنبيه وجرس إنذار يُطرق؛ لنبدأ في اتخاذ الأسباب الحقيقية التي ذكرها الله عز وجل في كتابه الكريم في آيتين شريفتين:

قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا خُذوا حذرَكم فانفِروا ثُباتٍ أو انفِروا جميعًا}. [النساء: 71].

وقال تعالى: {وأعِدُّوا لهم ما استطعتم مِن قوةٍ ومن رباطِ الخيلِ تُرهبون به عدوَّ اللهِ وعدوَّكم}. [الأنفال: 60].

وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم: «ألاَ إنَّ القوةَ الرَّمْيُ». رواه مسلم.

 

 

فالقضية ليست مجرد معرفة بذلك الخطر وحديثٌ عنه، وإنما أمرٌ بالحذر، وحملٌ للسلاح، وإعدادٌ للقوة. وليست القوة مجرد عتاد يُشترى بكميات مهما كثرت وأرهقت الميزانيات فإنها تبقى محدودة ونافدة. إن القوة الحقيقية لا تشترى بالمال، ولا تمنح، وإنما تنبع من الداخل، وتقوم على مرتكزات أساسية، سأشير إلى أربعة من أهمها:

(١) امتلاك التكنولوجيا والعلم وتوطينها في البلد.

(٢) الاقتصاد القوي القائم على القدرة على الإنتاج.

(٣) تماسك المجتمع واستقراره.

(٤) الإدارة الرشيدة للموارد والإمكانات التي تقوم على مبدأ العدل والمساواة بين كافة فئات المجتمع.

وهذه الأمور لا يمكن أن تتحقق إلا بعد إصلاح داخلي حقيقي يشمل كافة المجالات السياسية والاقتصادية، والاجتماعية، وينتزع الفساد من جذوره.

إذن فالخطوة الأولى التي يجب أن نتخذها لحماية أمننا القومي هي: العمل، والتصحيح، والبناء، وليس مجرد معرفة الخطر والحديث عنه. فنحن لا نستطيع رد أي عدوان خارجي مهما ردَّدنا عبارات التحذير منه ما لم نبدأ فعليًّا في البناء والتصحيح.

 

 

ثانيًا: بناءً على ما سبق، فإن كل من يدعو لإيقاف الحديث عن الإصلاح الداخلي في أي مجال من مجالاته، معللاً ذلك بتربص العدو الصفوي، وأن الوقت غير مناسب لمثل هذا الحديث، إنما يدعونا لحتفنا، سواء كان ذلك عن حسن نية، أو غير ذلك، بل إن مجرد التأخير لهذا العمل خطأ فادح قد تكون نتائجه كارثية.

والمتتبع لسيرة النبي صلى الله عليه وسلم يجد أنه لم يوقف إقامة العدل والأخذ بالشورى -التي تعد من أهم الإصلاحات الداخلية- حتى في أحلك الظروف وأصعب المواقف؛ فهل كان النبي صلى الله عليه وسلم يجهل خطر قريش في غزوة أحد حين بدأ استعداده بالشورى؟ وهل ورد عنه أنه اتَّهم صحابيًّا بالعمالة لقوًى خارجية لأي سبب كان؟ وكيف كان تعامله مع المنافقين؟ وهم الذين جاءه خبر السماء في شأنهم، وكان يعلم مدى بغضهم له ولدولته، ومع ذلك فإنه لم يمنعهم من أي حق من حقوق المواطنة، ولم يمنعهم من قول ما يشاءون في أي مكان وفي أي زمان -سوى القول المحرم- ومع ذلك فإن الغلبة كانت للمسلمين، ولم يضره وجود أولئك العملاء الثابتة عداوتهم؛ لأنه اشتغل بالإصلاح الداخلي والإعداد، ولم يبدد الجهود والموارد في أمور ضررها أكبر من نفعها، فكان مستعدًا لكل عدو.

فقرب العدو يجب أن يكون حافزًا للعمل, وإقامة العدل, وقبول كل من أراد المشاركة في البناء والنقد والتصحيح, لا مبررًا للمنع والإيقاف.

 

 

ثالثًا: المبالغة في تهويل خطر العدو لدرجة التحول إلى مجرد ردود أفعال لكل حركة من حركاته وكل سكنة من سكناته؛ ليست بسبيل المؤمنين المطمئنين أصحاب العزة، بل هي صفة مذمومة وصف الله بها المنافقين في كتابه الكريم؛ قال تعالى: {يحسبون كل صيحة عليهم}، وذلك لفرط جبنهم، وهي عادة الشعوب المغلوبة الضعيفة، التي استبعدت فكرة البناء والمنافسة، وصار مجرد العداء والحديث عن الأخطار المحيطة مشبعًا لها لدرجة التخمة التي تضطرها إلى الجلوس وترك العمل.

 

 

رابعًا: لم يكن التتار عدوًّا تاريخيًّا معروفًا للمسلمين حين دمروا بلادهم وسببوا أكبر كارثة مرت على التاريخ الإسلامي، وفي هذا درس هام بألاَّ ننشغل بالخطر الصفوي عن الخطر الإسرائيلي في المنطقة أو أي خطر قد يستجد ويكبر ونحن في غفلة عنه. وهذا الأمر يحثنا على سرعة البَدء في البناء والإعداد الذي ينتج عنه حصون منيعة تصد كل عدون دون أن تحتاج حتى لمعرفة مصدره.

 

 

وختامًا: العبرة بالإعداد والقوة، لا بالكلام ورفع الشعارات؛ فالأمة القوية ستكون في وضع آمن ومطمئن حتى وإن رفعت شعارات فيها شيء من اللطف وإبداء الرغبة في التقارب والتواصل مع الأمم الأخرى أيًّا كانت، بخلاف الأمة الضعيفة فإنها ستكون في وضع يُغري الخصوم باستغلالها، بل قد يصل الأمر إلى الاحتلال العسكري حتى ولو كانت تعرف عدوها الحقيقي وترفع أقوى الشعارات الرنانة التي تدل على عدائه؛ قال تعالى:

{إنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بقومٍ حتى يُغَيِّروا ما بأنفسِهم}.

 

المصدر/ الاسلام اليوم