قناة المجد.. الصحوة تحت الشمس
29 محرم 1435
محمد الهويمل

بعد (11 سبتمبر) اتجه الإعلام السعودي إلى حيوية بعد ركود لا يكاد يعالج قضاياه المحلية. هذا الاتجاه جاء نتيجة صدمة ثقافية, ومفاجأة أشبه بالصفعة، أسفر عن ردة فعل ينجح ويفشل فيها محرك الآلة الإعلامية حسب شخصيته وعقده واستثماراته لهذا المتغير المتوحش في الثقافة والعَلاقات.

 

ساوق هذا ما اتخذتْه الصحافة من منحى استثماري دفاعي لصدِّ الهجمة عن المملكة، وتفنيد التهم ضدها ما أفرز لغة جديدة وصياغات أخرى, ووجوها شابَّة طارئة على المقروء السعودي, تحكي المشكلة, وتستأثر بكشف الزوايا الظلامية في الخطاب الثقافي والديني تحديدًا. ومن معمعان هذا الصخب

 

 تم التداول الجديد لمفردة (الصحوة)، وتمَّ إدراجها ضمن القاموس السلبي دون أن يحدد هؤلاء أي ملامح حاسمة لهذه الصحوة، وأثيرت الرماديات في مساحات تتسع وتضيق حسب التكتيك, فهي حينًا تطال رموز الفتوى الكبار على نحو مراوغ، وأحيانًا يتمُّ تخفيف التهمة ضدهم إذا توجَّسوا أزمة محتملة مع السياسي. وفي المحصلة النهائية هم من يحتكمون وحدهم إلى توجيهه التهمة كمًّا وكيفًا وزمانًا ومكانًا وليس بوسع أحد أن يزاحمهم في منصات القصف ضد خصومهم لافتقار الآخر إلى منبر إعلامي فاعل. واستمر هذا الحال والصحافة تحاول أن تبلور الموقف السعودي ضد الظاهرة الدينية، وتحشد القرار الاجتماعي. وكانت مواجهتها الإعلامية ضد الديني مواجهة المسلح والأعزل. ولو استمر الوضع كما هو لنجح الصحفي (التنويري) في مشروعه في الوصاية على هذه المواقف والعَلاقات.

وبعد انصرام عامين من هذا الاستئثار برز منبر تواصلي مهم من منابر (الآخر)، وهي قناة المجد الفضائية. واعتمدت إستراتيجية استفزت خصومها استفزازًا ناعمًا. فهي اجتماعية وشرعية نأت بنفسها عن أي خوض سياسي، وأظهرت احترامًا للسياسي والاجتماعي والديني، بل نافست الصحافة في تحديد هذه العَلاقات حيث وفقت في محاولتها تعزيز الانسجام بين مثلث الدولة (السياسي, والديني, والاجتماعي). ولم يبدر منها ما يخل بهذا الانسجام، فكانت مقبولية طرحها أعم وأنجح وأصدق؛ وفي المقابل لم يراهن الليبرالي على الديني، وحاول عزله عن الخيار السعودي الجديد، فكان أن عزل شريحة باهظة التأثير, ما أوقعه في تناقض ومراوغة عارية أزاحت مصداقيته، حيث تناولت الفضائيات الإسلامية هذه التناقضات وأسهبت في تشريحها. والصدقية هنا تلعب دورها الناقد في تمكين الخطاب من الحضور في الوعي.

 

بعد بروز قناة المجد وقع الليبرالي في مأزق وجود منافس ضالع في شؤون الثقافة السعودية يحسن إحالتها إلى المرجعية المجمع عليها، كالنظام الأساسي للحكم، والحاكمية للقرآن والسنة، ومقولات أئمة آل سعود الذين توارثوا هذه القيم والثوابت, ما كرّس لتقارب ديني سياسي يشرح الدرس الثقافي السعودي للمجتمع الذي لا يعرف أكثره ما هو النظام الأساسي للحكم، والذي كان ردة فعل من الفضاء الإسلامي على الصحافة الليبرالية. فازدادت معرفة المجتمع السعودي والقطاع الشعبي منه باحتكام السعودية الدقيق إلى الشريعة مصدرًا وحيدًا للحكم. وهذا كسب جديد حققته المجد وأخواتها في معركة الاستئثار بالموقف الاجتماعي. فما كان من الآخر الليبرالي إلَّا توجيه تهم خارج النص السعودي، ولا عَلاقة لها بالحالة التجاذبية بينهما.

 

ما أقلقَ الليبرالي أكثر أنَّ (المجد) لم تقع في زلة تحجب صدورها رغم شجاعتها في طرح موضوعات ذات حساسية بالغة. وهذا من المهارة والرشاقة الإعلامية. وبقيت (المجد) على مبعدة من أي معالجة خارج السياسة الرسمية السعودية، وكأنَّها ـ تمامًا ـ تمثل السياسة والتوجه السعودي. ومن هذا وذاك استطاعت أن تكتسب كل الشروط السعودية، وكل ملامح الإنسان السعودي البسيط والشعبي الذي يحب دينه وبلده، ويستمتع بالحياة دون غلو مفتعل، ويزهد فيها دون تواكل مبتذل.

 

دخلت (المجد) وأخواتها في التفاصيل الشبابية، وعملت على إصلاح المنحرفين في كلا الطرفين، وأبرزت أصواتًا تجاهلها الليبرالي؛ لأنَّها قد تضر أهدافه. وباختصار فالمجد وتيارها بسطا مساحتها الحرة في إعادة مفهوم (الصحوة) إلى مربعه الطبيعي بعد أن ركله الليبرالي إلى (قِرنة) الإرهاب، وهاهي ذي الصحوة بكل سهولتها تتبوأ الشاشات، وتُتابَع من الجميع دون أن يعي أيٌّ من متابعيها أنَّها تعرضت لتشويه وتهم عشوائية بالعنف. بلْ راجعت (المجدُ) أخطاء التجربة الدعوية في العقود الأخيرة دون أن يملي عليها أحدٌ هذه المراجعات. فالاختلافات الإيجابية داخل البيت الصحوي قديمة وتجلَّت في أشرطة وكتب وندوات وخطب، ولم تكن من مبادرة الصحافة عبر أسماء تنقد؛ لأنَّها تكره. ولا يصلح إلَّا من يحب.

 

ومن مميزات شاشة (المجد) أنَّها تدافع - دون أن تدفع - عن منهجها السوي. فالسائد فيما تعرضه يشي بتلقائية السعودي المتعلم والقروي، دون التمييز بين طرف (صحوي) أو غيره. فالملتحي وغيره يحضران بشكل مستمر ضيوفًا ومقدمين، بل أكثر ما يُعالج في القناة مسائلُ غيرُ شرعية. فحققت التنوع دون تكلُّفٍ أو تصنُّعٍ. ومن مظاهر عفويتها أنَّها لا تفتعل خصومًا، ولا تلقي للاستفزاز الليبرالي كبير بالٍ. فمشكلتها مع أيديولوجيا الليبراليين فرعية، ومشكلتهم مع أيديولوجيتها رئيسة. وهذا من أسباب جاذبيتها، فهي وقورة في الإصغاء والردِّ، دون أن تُوقظ جبهة نائمة؛ لأنَّها ترى أنَّها تحتل الموقع الاجتــماعي الأقوى بانسجامها وتكاملها مع الثقافة السعودية، بل معبرة عنها.

 

هذا النهوض والتكامل السريع مع الوعي السعودي وتَّر بعض الخطابات الليبرالية ما شكل قلقًا انعكس في هجوم عشوائي يزداد بازدياد عدد هذه القنوات، ويزداد بإعراض القارئ عن الصحافة الورقية إلى الإنترنتية ذات الطابع المحافظ المتكامل مع القنوات الإسلامية, ما زاد من حرج وضعف الصحافة والكاتب الليبرالي.

 

ومن مظاهر توتره تسليط الضوء على ما يظن أنَّه أخطاء دعاة، كالمنجد والأحمد، وتوسيع ميدان حربها، وليست أزمتهم مع الشيخ، بل مع الشاشة المنتصرة لاسِيَّما أنَّ الليبراليين لا يستطيعون إنشاء قناة ليبرالية بحتة على العكس من المحافظين الذين يسمون قنواتهم بـ (الإسلامية).

 

إنَّ استعادة شخصية الصحوة لم تكن تحتاج إلى خطاب أيديولوجي متوتر. فقط أنَّ تصور الداعية والشيخ والمطوع (كما هو) في مجتمعه وبيته وعلاقاته الطبيعية دون تزوير.

 
المصدر/ موقع المثقف الجديد