23 رمضان 1436

السؤال

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
لا أدري كيف أبدأ في وصف مشكلتي، فقد أصبحت عاجزاً حتى عن الكتابة، يائساً تائهاً فاقداً الأمل من كل شيء حتى من رحمة الله التي لا ييئس منها إلا القانطون، الرجاء أنقذوني، فلم أعد أفهم نفسي، ولا أكاد أعي مشكلتي، إني ضائع، فبعد أن كنت شاباً مواظباً في عملي نشيطاً فيه، أصبحت شيخاً عجوزاً في عمر الشباب، لقد ذبلت نضارة وجهي، ويئست من هذه الحياة أيما يأس، إلى درجة التفكير بالانتحار أحياناً، من أي شيء أعاني لا أدري!!.
تيهان نفس رهيب، أم جنون بانتظار التفاقم! لقد دخل الشك في قلبي حتى حول حقيقة الإسلام، بعد أن كنت مواظباً على أمور ديني، ضاقت علي الدنيا بالهموم والمشاكل، ودعوتي لا تُستجاب، ماذا أفعل؟.
ليس لي سبيل غير الموت؛ فهو راحة لي من كل شيء، كلنا يخطئ، وخيرنا التائب، فقد تبت إلى الله، ومع هذا أشعر بأن همومي مستمرة، ماذا أفعل؟.
باختصار شديد: أنا شخص قد مات قلبه، والجميع يقولون عني هذا، تارة أكون مستسلماً خانعاً إلى درجة استعظام الآخرين وتقديسهم، واستصغار نفسي أمامهم، وقد كان ظني بالله حسناً، ولكن المرارة التي أعيشها، جعلتني أقول إن الله خيب ظني، وأصبحت ألوم ربي كما ألوم إنساناً عادياً!!!!! وأُكثر من قول: (لماذا كل هذا يا ربي؟!.).
منذ سنوات وأنا على هذه الحال، ولا حتى بصيص أمل، وتركت الصلاة، وهجرت القرآن تمرداً!! بعدما كنت متمسكا بهما، وكان ذلك ديدني، وأصبح الدين يغيظني، والشك يطاردني! وأتهم طريقة تربيتي التي كانت نوعاً ما (دينية) على الخلق والمبادئ والقيم، وبدأت أشك أن ذلك قد يكون السبب في معاناتي هذه، وليس الفراغ العاطفي!!.
وأقول ماذا جلب لي الخلق والأدب غير التعاسة والمعاناة، في حين أرى أن الفاجر البذيء والمنافق الكذاب أو الفاسق أكثر ثقة بنفسه مني، وأكثر نجاحاً وأتم صحة وأوفر حظاً!!!!.
لقد مللت والله، وتعبت من هذه الحال، فما المخرج؟.
أرى نفسي كشمعة تنطفئ تدريجياً أمام عيني ونهايتها قريبة، وأنا عاجز عن فعل أي شيء! هل يكون الهروب نحو الانتحار هو المخرج، فأخسر على عجل ديني الذي لم يبق منه شيء، ودنياي التي لم أتمتع منها بشيء، وآخرتي التي لم أدخر لها شيء؟.
أنا في جحيم ولا يشعر بذلك أحد، أعيش في وهم وسراب، أنا ميت بين الأحياء، ولا أدري ماذا أفعل، فلا حتى صديق يواسيني، بسبب المعاناة التي أعيش، ورؤية ما في هذا العالم من جور وظلم ورزايا، بدأت أتساءل عما إذا كان الله فعلاً موجود!!!! بعد أن كان هذا الأمر بالنسبة لي قناعة لا نقاش فيها، تصوروا إلى أي حد وصلت حماقتي وتمردي!!!.
وحين أحاول فهم مشكلتي ومعاناتي أقول: لو أني لم أكن أشقى الناس لما عانيت كل هذا، أقسم بالله إني تعبت خلقت في هذه الحياة بدون فرح، ولا يوم شفت فيه الفرح، تعبت أقسم لكم بذلك هل أنتحر؟.
والدي منذ صغري معاملته لي قاسية، وكان يحرمني من كل شيء، وكان يضربني لأتفه الأسباب، لكن لم يعد يضربني ربما لأني كبرت، تولد لدي كره شديد نحو أبي، إلى درجة أصبحت أتمنى زوال أحدنا حتى يرتاح الآخر، أنا فشلت بكل شيء في هذه الحياة، أحسُّ أن الحياة ضدي، وليس هناك من يسمعني، ولا من يفهمني، أعطوني حلا، أقسم برب السماء أرهقني هذا العالم، ولم أعد أحتمل.

أجاب عنها:
سعد العثمان

الجواب

الحمد لله وحده، والصَّلاة والسَّلام على من لا نبيَّ بعده، وعلى آله وصحبه...
أخي الفاضل: أشكرك على ثقتك بموقع المسلم، ومتابعتك له، ونسأل الله - عزَّ وجلَّ - أن يجعلنا أهلاً لهذه الثِّقة، وأن يجعلَ في كلامنا الأثر، وأن يتقبَّل منَّا أقوالنا وأعمالنا، وأن يجعلها كلَّها خالصة لوجهه الكريم، وألا يجعل فيها حظَّاً لمخلوق..آمين.
أخي الكريم: فهمت من خلال عرضك لمشكلتك، أنَّك تعاني من مشكلة الحيرة واليأس والقنوط، نتيجة تربية قاسية مارسها عليك أبوك في صغرك، ترددت خلال حياتك بمراحل فيها صلاح وفساد، تجد إقبالاً في نفسك وإدباراً، وفي الفترة الأخيرة طال إدبار نفسك عليك حتى فقدتها، فوصل بك الحال إلى حد الإلحاد وترك الدين، واشتد عليك كراهية ما أنت فيه حتى فكرت بالانتحار، ووصل بك الأمر إلى درجة أنك ترى الفاسق البعيد عن ربه أحسن حالا منك، لا تقل أنه لا يوجد أحد يسمعك، فإخوانك في موقع المسلم يسمعوك، ويساعدوك ويعطونك ما لديهم من خبرات وتوجيهات، وما عليك إلا أن تتبع النصائح والتوجيهات التي يقدمونها لك، وهي في النقاط الآتية:
أولاً: لا ملجأ ولا منجى من الله إلا إليه.
إن التسليم لله والتفويض إليه، قبل وبعد فعل الأسباب المقدور عليها، من شأنه أن يريح النفس من عناء لا طائل منه، ويربط على القلوب، فتجدها أثبت ما تكون في أوقات الأزمات والشدائد، وكيف لا يكون ذلك، وهو يأوي إلى ركن شديد ورب مجيد.
أخي نحن بحاجة إلى اللجوء إلى الله في كل ما يعرض علينا من ظلم وعدوان، أو فقر وحرمان أو مرض في الأبدان، أو غير ذلك مما لا يملك كشفه وإزالته إلا الله وحده، ردد معي دائمًا:
بك أستجير، فمن يجير سواك؟! فأجِر ضعيفًا يحتمي بحماك.
أرجو أن تنظر في كل ما هو إيجابي في حياتك، وبتأمل وقوة، وهذا إن شاء الله سوف يساعدك في تقليل المشاعر السلبية لديك، وتذهب عنك إن شاء الله هذه الكآبة والنظرة السلبية التي تضر الكثير من صحتك النفسية.
ثانيًا: تأخير التوبة والاستغفار سبيل القنوط واليأس.
قال الشيخ ابن سعدي رحمه الله: " من بادر إلى الإقلاع من حين صدور الذنب، وأناب إلى الله، وندم عليه فإن الله يتوب عليه، بخلاف من استمر على ذنبه، وأصر على عيوبه، حتى صارت فيه صفات راسخة، فإنه يعسر عليه إيجاد التوبة التامة. والغالب أنه لا يوفق للتوبة، ولا ييسر لأسبابها، كالذي يعمل السوء على علم قائم ويقين، متهاونًا بنظر الله إليه، فإنه يسد على نفسه باب الرحمة. نعم قد يوفق الله عبده المصرّ على الذنوب على عمد ويقين للتوبة النافعة التي يمحو بها ما سلف من سيئاته، وما تقدم من جناياته، ولكن الرحمة والتوفيق للأول أقرب " جامع الرسائل: [1/228].
فإياك أخي من الملل من التوبة والاستغفار، فمن لزم التوبة والاستغفار تعلق بسبب كبير من أسباب الطمأنينة والسعادة، وشعر بالقرب من ربه، وانشراح عجيب في صدره.
ثالثًا: لماذا كل هذا يا ربي؟!.
حذار حذار أخي الغالي من اتهام الله تعالى في أقضيته، بل عليك أن تتوب إلى الله تعالى مما سلف منك، وأن تعلم أن المصائب قد تصيب العبد بسبب ذنوبه كما قال تعالى: (وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ) الشورى: 30.
واعلم أنه لا يجوز لك التسخط على قضاء الله وقدره، وعليك التسليم الكامل لأمر الله فيك، يقول الحسن البصري رحمه الله: " من رضي بقضاء الله، جرى عليه وله أجره، ومن سخط على قضاء الله، جرى عليه وعليه وزره ".
رابعًا: لله الحكمة البالغة.
الله تعالى حكيم يضع الأشياء في مواضعها، ويوقعها في مواقعها، وأنه جلَّ وعلا لا يقضي قضاء إلا كانت له فيه الحكمة البالغة، التي تعجز عقول البشر القاصرة عن إدراكها، والمؤمن الحق مهما أصابه من مصاب، فإنه يصبر ويعلم أنه عبد لله تعالى، لا خروج له عن تدبيره وتصريفه، ويعلم أن في صبره الخير الكثير، بل ربما كان هذا البلاء منحة من الله تعالى له لما يترتب عليه من حسن الأثر وعظيم الثواب.
خامسًا: اتَّخذ لك صديقًا صدوقًا ديِّنًا.
للصديق أهمية كبيرة في تكوين شخصية الإنسان، يحتاج كل شخص لصديق مخلص يبثُّ إليه شجونه وهمومه، وأنت أخي بحاجة لأن تختلط مع الآخرين، وتختار من الأصدقاء أصلحهم وأفضلهم وأعقلهم وأحلمهم، اجلس معه وبثَّ إليه ما يحصل لك، ولا تكبت كل شئ في نفسك، بل تحدث وتكلم وعبِّر، فكلُّ هذا يعينك في علاج مشكلتك، وخروجك من قنوطك ويأسك.
سادسًا: غيِّر روتين حياتك.
تغرَّبْ عن الأوطان في طلب العلا *** وسافر ففي الأسفار خمس فوائد
تَفَرُّج همٍّ، واكتساب مــعيشة، *** وعلم، وآداب، وصحبة ماجد
فإن قـيل في الأسفار ذُلٌّ ومحنـة *** وقطع الفيافي وارتكاب الشدائد
فـموت الـفتى خير له من قيامه *** بدار هوان بين واشٍ وحـاسد
فأنصحك أخي بالسفر، وتجديد نشاطك، وتغيير روتين حياتك اليومي، وحبَّذا لو سافرت للعمرة، وزيارة مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، إن رؤيتك للكعبة المشرفة، وطوافك ببيت الله العتيق، ووقوفك عند الملتزم وسكبك لعبرات التوبة والندم، كل هذا حري بحل جميع مشكلاتك، فانطراحك بين يدي الله في بيته بجوار الكعبة، وصلاتك في الروضة الشريفة في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم كافٍ للقضاء على جذور اليأس والقنوط في نفسك.
سابعًا: ولكن! ساعة وساعة.
ينصح علماء النفس بضرورة ممارسة بعض النشاطات الترويحية، لدورها الكبير في عدم جنوح النفس البشرية إلى اليأس والقنوط والاكتئاب، فمن فوائد النشاط الترويحي:
1- يساهم في إكساب الفرد خبرات ومهارات وأنماط معرفية.
2- يساهم في تنمية التذوق والموهبة، ويهيئ للإبداع والابتكار.
3- يساعد في إبعاد أفراد المجتمع عن التفكير أو الوقوع في الجريمة.
4- ينقذ الإنسان من الملل والضجر وضيق الصدر.
5- ينسي الإنسان ما لديه من آلام نفسية أو حسية، أو يخفف من وطأتها.
ثامنًا: إياك ومجرد التفكير في الانتحار.
عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من تردى من جبل فقتل نفسه، فهو في نار جهنم يتردى فيها خالدًا مخلدًا فيها أبدًا، ومن تحسَّى سمًا فقتل نفسه، فسمه في يده يتحسَّاه في نار جهنم خالدًا مخلدًا فيها أبدًا، ومن قتل نفسه بحديدة، فحديدته في يده يجأ بها في بطنه في نار جهنم خالدًا مخلدًا فيها أبدًا) متفق عليه.