كيف فشل انقلاب "كرومويل"
3 ربيع الثاني 1435
د. هشام الحمامي

حين أطاح أوليفركرومويل "1599-1658م" بملك إنجلترا تشارلز الأول "1600-1649م"، وصارت السلطة بين يديه، يكون قد نال كل ما اشتهاه وعاش العمر كله يحلم به ويتمناه.. لكن ثمة نقص فى مذاق القوة التي بات يستشعرها على أطراف أصابعه.. فما الذى يريده بعد ذلك.. وما هى خطوته التالية..؟ إن شئنا الحقيقة بعينها.. سنجد الرجل فى واقع الأمر يريد السلطة المطلقة.. وفوق ذلك يريد أن يصبح ملكًا!!.. صحيح أنه قام بانقلابه ليعلى سلطة البرلمان على سلطة الملك، وهى الخطوة التي تطورت إلى إلغاء الملكية وإعدام الملك نفسه.. إلا أن طموحه الحقيقي الذى حركه من البداية وسرعان ما تكشف له.. هو أن يكون ملكًا متوجًا.. فالرجل كان من العامة.. صحيح أنه كان من ملاك الأراضي لكنه لم يكن نبيلاً.. وكان يحمل حقدًا دفينًا على طبقة النبلاء والملوك الذين طالما رآهم أقل منه مقدرة وأقل منه كاريزما وأقل منه ذكاء.. لم تكن المواقف السياسية والرغبات الإصلاحية فقط هى التى كانت تحكم اختياراته ومواقفه.. هذا هو المعلن أمام الناس..ودائمًا وفى كل وقت ستقبع خلف كلمات السياسة والتاريخ والوطن والطبقة والنضال والشعب والإصلاح والتغيير.. ستقبع مفاتيح أخرى لا تتصل بهذه الكلمات إلا بقدر ما هى وسائط لإشباع مسعى يرجع لأول الصبا.. إنها عقد الأزمنة البكر فى حياة أمثال كرومويل.. إنه ليس إلا سياسى يتطلع إلى المجد الأسمى لشخصه وذاته ولذلك العملاق الفتاك القابع بداخله وهو(الأنا)...

 

 

لم يكن لدى كرومويل سابق خبرة عسكرية قبل الحرب الأهلية التى نشبت بعد صراع الملك والبرلمان، ولكن قدرته على التآمر والتلاعب وثبات إرادته وصموده لتحقيق أهدافه وأيضًا براعته في التلاعب بالأحاسيس الدينية والسياسية لدى الناس.. كل ذلك هيأ له القدرة على تشكيل مواقفه وقواته العسكرية على نظام فذ وولاء فريد...

 

وبدأت محاكمة الملك تشارلز الأول وهى المحاكمة التى ستجعلنا نضرب أكفنا بعضًا ببعض من الحوار الذى دار فيها بين الملك والقضاة.. وإذ يجلس القضاة على منصة مرتفعة في طرف من قاعة "وستمنستر" الشهيرة ويصطف الجند في الطرف الأخر وتكتظ الدهاليز والشرفات بجمهور المتفرجين.. يجلس الملك وحده وسط القاعة، وبعد أن يتلو رئيس الجلسة قرار الاتهام، يطلب من الملك أن يجيب.. فينكر الرجل فى إباء وشمم سلطة المحكمة من الأصل في محاكمته أو حتى صحة تمثيلها لشعب إنجلترا (قال للقاضى من أنت..؟!) فيقول مقولته الفذة بأن (محكمة يديرها برلمان ويسيطر عليه الجيش هي أسوأ طغيانًا من أي طغيان صدر منى على الإطلاق...!!) يا للتاريخ الذى يصول ويجول فى الأزمان كلها.. حين قال الملك ذلك ضجت الشرفات بالهتاف "حفظ الله الملك".. ودوت المنابر باستنكار المحاكمة وشجبها.. وعرض أربعة من النبلاء أن يقدموا حياتهم فداءً للملك.. فرفضت المحكمة عرضهم، ووقع تسعة وخمسون من القضاة ومعهم كرومويل على حكم الإعدام على الملك، وفي 30 يناير سار الملك في هدوء إلى الموت أمام جمهور غفير تملكه الرعب إذ يرى الملك الشرعي يساق إلى الموت بهذه السهولة والسرعة.. وبضربة واحدة من بلطة الجلاد قطع رأسه. ويحكى وول ديورانت فى قصة الحضارة مشهد الإعدام نقلاً عن أحد من حضروه.. "لقد تعالت أنات آلاف الحاضرين وقتئذ وآهاتهم بشكل لم أعهده قط من قبل وأرجو ألا أسمعه من بعد".

كان كرومويل يعتقد بيقين أن بقاء الملك على قيد الحياة مهما يكن من اطمئنان إلى ضمان سجنه أو نفيه.. يمكن أن يحفز الملكيين إلى معاودة الثورة المرة بعد المرة.. إذ أن الرجل يجسد شرعية الحكم وسوف يكون وجوده حيًا حافزًا على تجدد المقاومة ضد الانقلاب.

ليس أدق فى التوصيف من الشعراء والروائيين الذين يمتلكون "جهاز الحس فى الجنس البشرى" كما يقول العلامة على عزت بيجوفيتش.. ما بالك إذا كان هذا الشاعر والروائي هو فيكتورهوجو صاحب "البؤساء" والعدو العتيد لنابليون بونابرت.. فيكتب عام 1827م رواية من أروع رواياته "مقدمة كرومويل".. ويصف لنا نزعات التسلط لديه والرغبة الجامحة فى امتلاك السلطة المطلقة فى كلتا يديه.. قائلا:
 "واليوم وهو يقبض علي كل شىء بيديه من خلال نجاح الانقلاب وسيطرته على البرلمان يعرف قبل الجميع  أنه إذا لم يعترف به ملكًا شرعيًا لن يساوى كل ما حققه الآن شيئًا.. كان الرجل رغم تظاهره بالدعوة إلى إقامة الجمهورية يؤمن فى قرارة نفسه وأيضًا لحسابات نفسه بالملكية.. كان يصرح بذلك لمن حوله.. لكن الخجل يمنعه الآن من المطالبة بالنداء به ملكًا.. سيقول الجميع إنه فعل كل ما فعل من أجل أن يصبح ملكًا؟؟ البرلمان وأعيان لندن والهيئات.. كل هؤلاء على وشك أن يتوجوه ملكًا.. لكن شيئًا من القلق يعتمل فى أحاسيسه الداخلية يدعوه إلى الحذر والانتباه.. ذات ليلة خرج متنكرًا ليعرف ماذا يحدث من حوله فيكتشف أن ثمة مؤامرة حقيقية تستهدف الجمهوريين الطهرانيين الذين ساندوه فى الانقلاب للتخلص من الملكية وإقامة الجمهورية.. الكاثوليك من أنصار الملكية.. لا ينتظرون سوى غفلة منه حتى ينقضوا عليه.. حين وقفوا بجانبه وآزروه لم يكن ذلك من أجله.. ولكن من أجل إنجلترا.. فإذا كان سيحول كل المكاسب لصالحه فإنهم حتمًا سيفضحونه ويتخلصون منه بسرعة.. هذا هو فحوى المؤامرة.. "توازن القوى" الذى مكنه من أن يكون (سيد اللعبة) سينقلب ضده من اللحظة التى سيعلن فيها قبوله لتاج إنجلترا المعروض عليه.." هكذا وصف فيكتور هوجو المشهد.. لكن الرجل كان أكثر دهاءً من الجميع فيكون كومونولثا يضم "إنجلترا واسكتلندا وأيرلندا" ويكون "حاميًا" عليه.. وإذ يمكث أحد عشر عامًا يحكم حكمًا ديكتاتوريًا..

يموت ولكن قبل موته يأبى ألا يفضح ما فى أعماق نفسه فيرتب الأمور ليرثه ابنه..!! لكنه يفشل فى ذلك.. وتدخل إنجلترا فى فوضى سياسية فيستدعى البرلمان ابن الملك المغدور به(تشارلز الثانى) من منفاه فى فرنسا (1661م) وينادى به ملكًا على البلاد.

 

ثمة دراسات وبحوث تاريخية تشير إلى دور يهودى غامض فى هذه المأساة الانقلابية.. ذلك أن اليهود كانوا ممنوعين من دخول إنجلترا بعد طردهم منها عام 1290م ففى عام 1655 يجمع كرومويل - بعد أن استتبت له الأمور - عددًا من الفقهاء وكبار الموظفين ورجال الدين للبحث في القبول بعودة اليهود، ودافع هو شخصيًا عن الفكرة بقوة مؤكدًا الجانب الديني فيها..(إذ لا بد من تبشير اليهود بالإنجيل الطاهر ولكن أنستطيع تبشيرهم إذا لم نحتمل عيشهم بين ظهرانينا؟) هكذا قال ..على أن حججه لم تلق تعاطفًا كثيرًا وأصر رجال الدين على ألا مكان لليهود في دولة مسيحية واعترض ممثلو التجارة بأن التجار اليهود سينتزعون التجارة والثروة من أيدي الإنجليز، وحين استشعر كرومويل أن تلك الخطوة قد تهدد حكمه، لم يصدر مرسومًا بعودتهم ولكنه سمح بدخولهم فى صمت..

هذه صفحة "انقلابية" من صفحات التاريخ.. ستجدها مملوءة بنزعات النفوس وحقدها الملحاح.. وستجد الجماهير تصنع كارثتها الوشيكة دائمًا وتقوم بدورها الأثير فى تصديق المغامرين والطائشين وأصحاب الجرأة واللسانة والطموح الطاغى.. وستجد اليهود فى خلفية الأحداث ينظرون ويحركون ويرقبون ويدفعون..باختصار ستجد فيها ما كان وما هو كائن..(وكانت إساءات الليالي كثيرة**فما برحت حتى شكرنا الليالي).

 

المصدر/ المصريون