من أكثر المفارقات غرابة في تصرفات كثير من البشر , أن تجدهم يعيبون على أسلوب التجربة والخطأ كمنهج للتعلم في أبسط ممارساتهم اليومية رغم ضئالة قيمتها وضعف تأثيرها فيهم , في حين يتبعون نفس النهج في التعامل مع أغلى ما يمتلكون !
ففي أبسط المواقف اليومية قد لا تلجأ ربة المنزل لتجربة طهي صنف جديد من الطعام لا تعرفه إلا بعد سؤال المجربين أو البحث عن معلومات حول كيفية طهيه والمقادير الواجبة لكي لا تقع في الخطأ , وبينما يتطلب شراء جهاز الكتروني بسيط من رب الأسرة أن يبحث ويقرأ المواصفات والخصائص وسبل التشغيل والمشاكل وحلولها والمحاذير لتلافيها , وكلاهما يرفض مطلقا فكرة أن يجرب ثم يتعلم من خطئه ويعتبرها فكرة خاطئة تماما إذ تكلفهم ضياع الوقت أو الجهد أو المال .
لكن نفس الرجل والمرأة قد يقعان فيما هو أكبر من ذلك ويتصرفان بنفس المنطق الذي رفضاه من قبل في تربيتهم لأبنائهم , فيعتمدان على أسلوب تجربة الوسيلة التربوية والتعلم من الخطأ فيها مستقبلا , ومن ثم لا يكررانه بعدها , متناسين أن الولد أثمن وأغلى ما يمتلكون مما رزقهم الله في هذه الحياة الدنيا وأن الخطأ في تربيته من الخطورة بمكان , وربما قد لا يجدان طريقة لإصلاحه بعد ذلك .
قليل من الآباء والأمهات من يطلع ويبحث ويقرأ في طرق ووسائل التربية , وقليل منهم أيضا من يلجأ إلى كبار السن والخبرة بأسئلة حول كيفية التصرف في المواقف التربوية , ونادر من يحاول أن يحضر في ذلك مؤتمرات أو ندوات أو لقاءات تعريفية بالوسائل التي يجب إتباعها في التربية والمخاطر التي يتعرضون لها والمشكلات التي تواجههم والحلول المثلى لفهم نفسيات أبنائهم ومحاولة التأثير فيها , بل الأغلبية من الناس لا تعترف أصلا بأن تربية الأبناء علم يحتاج للتوقف عنده وسؤال المختصين .
إن قليلا من الصداع في الرأس أو ألم بسيط في الأسنان يجبران الآباء على سرعة الذهاب للطبيب للخوف على صحة الطفل البدنية – وهذا صحيح لا ينكر - في حين أن هناك أمراضا وأوجاعا شديدة الألم على الطفل وعميقة الأثر على حاضره ومستقبله لا ينتبه لها الآباء إطلاقا ولا يعتبرون أن الطفل في حاجة للوقوف بجانبه , بل يعتبرون شكواه من الترف الغير مباح .
ومن المفارقات المفجعة أيضا أن هناك قوانين ودراسات وتراخيص تمنح للأفراد لكي يسمح لهم بممارسة أي عمل , فلا يمكن لإنسان أن يمارس الطب أو الهندسة أو التعليم أو غيرها من المهن مهما كانت بسيطة إلا إذا كان مؤهلا , بل لا يمكنه قيادة أبسط سيارة إلا إذا حصل على شهادة تفيد صلاحيته لذلك , في حين أن أهم واعقد وأخطر الأدوار التي يقوم بها الإنسان في حياته وأكثرها اتصالا بمجتمعه وتأثيرا فيه وهي تربية الأبناء قد لا تقوم على أسس سليمة ولا يوجد لها برامج ولا إرشادات ولا تنبيهات مجتمعية مسئولة عن ذلك , بل ويُترك فيها الأمر لاجتهادات الناس الغير مبنية على علم أو دراسة أو خبرة .
ربما لم تظهر مشكلة لهذه الممارسات قديما لاتصال الحفيد بالأجداد والجدات الذين كانوا يشتركون بصورة حقيقية وواقعية في عملية التربية , ولم تكن تُترك فيها تربية الأبناء للأبوين وحدهما دون سابق خبرة أو تجربة , ولكن مع تغير الأحوال وانفصال كل أسرة صغيرة بنفسها وقيامها على شئون تربية أبنائها منفردة ظهرت المشكلات التربوية , وصار الأبناء ميدانا لتجارب الأبوين التربوية , فما يثبت فشله من الوسائل التربوية في التعامل مع طفل يتم تلافيه في الآخر دونما نظر أو اعتبار للخسارة الرهيبة التي يخسرها المجتمع لوجود أطفال ظلوا فترة طويلة كفئران تجارب تربوية لآباء لم ينالوا قسطا من الثقافة التربوية ولم يكن معهم – أو ربما رفضوا تماما أن يتدخل- من يوجههم في تربية أبنائهم .
ولا اعني بتدخل المجتمع في ممارسة دوره في العملية التربوية أن يسلب حقا أصيلا للآباء في العملية التربوية لأبنائهم , وإنما اعني به تشجيع وجود ثقافة أسرية بإقامة فعاليات تربوية يعطي نصائحها وتوجيهاتها التربوية وتطرح حلولا للمشكلات التربوية التي يعانيها الآباء مع أبنائهم وأن يهتم الإعلام بقضية التربية ويفرد لها مساحات اكبر في الوسائل الإعلامية لمناقشات المتخصصين مع إقامة دورات توجيهية أسرية لراغبي الزواج والمتزوجين حديثا ولمن يرغب من الآباء لطرح وسائل معالجة المشكلات للأبناء وغير ذلك من الوسائل المجتمعية التي ترفع وتساهم في النهوض بالثقافة الأسرية لأبناء المجتمع كله .
الابن الأول يحصد الأخطاء التربوية للأبوين
ولعل أكثر الأبناء تضررا في العملية التربوية هو الابن الأول الذي يولد فيجد أبوين لم يمارسا العملية التربوية لأبناء من قبل , فيتعامل كل منهما بحسب ما ورث وما رأى من ممارسات في حياته مع والديه وبحسب ما تمليه ثقافة الأبوين التربوية , ومن خلال متابعات كثيرة للعديد من الأبناء ظهر أن الابن الأول في معظم الأسر مختلف عن باقي الأبناء , ووُجد أن مشكلات شخصية مثل التردد وعدم القدرة على أخذ قرار حاسم والانطواء والعصبية الزائدة وضعف الثقة بالنفس توجد بنسبة عالية في الابن الأول بنسب اكبر من باقي الأبناء .
ولعل أبرز أسباب هذه السلوكيات التربوية الخاطئة أن الابن الأول قد يقع – لعدم وجود الخبرة التربوية للأبوين – تحت تأثير واحد من نوعيتين متناقضتين وخاطئين من التربية - هذا إن لم يقع تحتهما معا بين الأب والأم - , فيقع الابن الأول بين الإفراط في التدليل بسبب سعادة الأبوين لوجود ابن لهما فيغدقان عليه بالاهتمام المبالغ فيه وتلبية كل رغباته ظنا منهما أن ذلك هو الأسلوب الأمثل للتربية , والتصرف الآخر قد يقع الابن الأول تحت السيطرة الكاملة من الأبوين التي ربما تصل للقسوة المفرطة بدعوى الرغبة في أن يكبر الصغير ليصير رجلا يعتمد عليه الأب أو بنتا تعتمد عليها الأم ويظنان أيضا أن هذا هو الأسلوب الأمثل للتربية , وتكون المشكلة الأعمق إذا وقع الطفل بين تدليل مفرط من جهة وقسوة مفرطة من جهة أخرى وكلاهما خطأ تربوي والأخطر إذا اجتمعا .
ومن المشاهدات أيضا أن كثيرا من الأبناء - من بعد الأول - قد لا يعانون من نتائج جهل وعدم خبرة الأبوين , لان الأطفال بعد الأول يحصدون من الخبرة التربوية التي اكتسبها الأبوان نتيجة ممارستهما للتربية بأسلوب المحاولة والخطأ مع الابن الأول , فيقل التدليل المفرط عند من كان يتبنى هذا النهج , وأيضا تقل القسوة المفرطة عند من ينتهجها وخاصة عن تبين أصحاب كلا الرأيين أنهما قد أنتجا نماذج لا يرضون عنها وظهرت لهم مشكلات عملية في طريقة تربيتهما وساعتها ربما يلجئون بالسؤال والاستشارة – مضطرين - لأصحاب الخبرات التربوية من الأجداد أو المتخصصين التربويين .
ولهذا من الأخطاء الشديدة التي يقع فيها الأبوان حينما يتصوران أن كل تدخل للأجداد في التربية هو تدخل سلبي غير مرغوب فيه , وأن التربية الحديثة التي يتمنياها لأبنائهما تختلف كلية عن التربية التي ربى عليها الأجداد أبناءهم من قبل , ولكن الأدق أن هناك فارقا بين الأهداف التربوية وبين الأدوات ووسائل التأثير والتوجيه .
فيعرف الجميع أن الأدوات ووسائل التأثير والتوجيه قد تتطور ولكن المبادئ التربوية ثابتة وأصيلة ولا تتغير إلا يسيرا فالقيم الكبرى والأهداف العظمى المرجوة كثمرة من ثمار التربية لن تتغير على مر العصور ومنها إخراج الإنسان الذي يستطيع أن ينفع نفسه وغيره ومجتمعه وان يكون صالحا في نفسه ومصلحا لما حوله وان يكون منتجا وايجابيا وقادرا على رفعة شأن نفسه في الدنيا والآخرة وعاملا على أن يكون لبنة في صرح كبير لبناء مجتمعه , فهذه الأهداف كغيرها من الأهداف العظمى للتربية لا تتغير ولا ينكرها أب أو مرب , ولكن الأدوات التربوية للوصول لها تتغير من جيل لآخر , ولا يلزم الثبات على أداة تربوية وتقويمية مادام العلم يتطور والمعارف تتقدم والعالم يقترب وتتسارع المعلومات متدفقة بين جنبات العالم بسرعة البرق .
يجب أن يتفهم الأبوان أن تربية الأبناء علم يحتاج للدراسة والتثقيف ولا يمكن اكتساب الخبرة فيه إلا بالتجربة التي قد تجني على قطاع كبير من أبنائنا , ويجب أن لا تخضع لهذا الأسلوب المرفوض وهو التعلم بالمحاولة والخطأ , لان الأبناء أثمن من أن يكونوا ميدانا للتجارب التربوية , فالمجتمع يخسر أبناء يخرجون كنماذج تحمل من العيوب الشخصية والتشوهات النفسية نتيجة الأخطاء التربوية الشديدة لآبائهم , وربما يمتد تأثيرهم لأجيال تليهم .
(مجدد)