سوريا: الحشد الشعبي لبناء منظومة سياسية رشيدة
21 جمادى الأول 1435
د. بشير زين العابدين

كشفت أحداث الثورة السورية عن وجود خلل بنيوي كامن في النظام الجمهوري، وعن مشاكل عميقة لمجتمع عانى ستة عقود من التهميش والإقصاء.
وأظهرت أحداث السنوات الثلاثة الماضية أن الانهيار المفاجئ للمنظومة الجمهورية في العالم العربي قد جاء كنتيجة حتمية لارتكاز السلطة على قواعد ضيقة من الفئات الحاكمة والاستناد إلى القوة العسكرية دون التأييد الشعبي، وفشل النظم الثورية في تشكيل علاقة متوازنة بين الدولة والمجتمع، إضافة إلى ضعف البناء الاقتصادي، وسوء توزيع الثروة كأمراض كانت تنخر في هذه الدول وتمنعها من تشكيل نظام أمني متوازن.
ونتيجة لذلك فإن الجمهوريات العربية كالعراق وتونس وليبيا ومصر واليمن؛ تشهد مرحلة انتقالية عصيبة وحاسمة من التكون البنيوي، وتواجه التحدي الأكبر المتمثل في تعزيز الهوية الوطنية وتحقيق الإجماع الشعبي.

 

أما في سوريا؛ فإن الحراك الثوري يمر بمرحلة من الجمود السياسي والعسكري، ويمكن تفسير حالة الاحتباس التي يتسم بها المشهد الراهن من خلال النظرية "البنيوية"، حيث رأى "تيد غور" أن الثورات تمر بثلاثة مراحل:
1-    مرحلة السخط الشعبي العارم غير المنسق.
2-     سعي القوى الشعبية للانخراط في حراك ثوري منظم.
3-     تطور البناء السياسي والعسكري للثورة إلى مستوى الندية مع النظام، ثم التفوق عليه تدريجياً لهدم أركانه وتفكيك مؤسساته، وتكوين بديل مؤسسي قادر على ممارسة الإدارة والحكم.
ومن خلال هذه المعطيات يمكن القول أن النصر الفعلي للثورة لا يقتصر على إسقاط النظام؛ بل يتمثل في قدرة القوى الثورية على تشكيل منظومة سياسية رشيدة تشكل بديلاً مؤسسياً قادراً على الأخذ بزمام المبادرة الداخلية والتعامل مع القوى الإقليمية والدولية بحنكة واحتراف.

 

وفي وقفة مراجعة للحراك الثوري السوري يمكن القول أن التطور البنيوي قد انحرف في مساره خلال الأشهر الماضية، ويظهر ذلك جلياً من خلال تقوقع بعض القوى الفاعلة في قوالب صلب لا تتمتع بالمرونة التي تسمح لها بالتأقلم مع الأحداث والمستجدات؛ وتقمص البعض منها نمطاً من التشكل البنيوي المنفصم عن الحراك الشعبي وعن المجتمع واتخاذ مواقف سياسية متشددة تنطلق من ادعاء الوصاية على الثورة عبر تبني مجموعة شعارات تقوم على مفهوم: "التصرف الصحيح" مثل: "تحقيق المصلحة العامة" و"صيانة الهوية"، و"محاربة العدو"، و"صد المؤامرات"، و"ترسيخ الاستقلال"، و"تحقيق الإصلاح"، لكنها لا تملك على أرض الواقع برنامجاً سياسياً قابلاً للتحقيق.
ومن أبرز مساوئ هذه المنظومة الفكرية؛ تعزيز حالة الريبة تجاه الخارج، وتنمية مشاعر العداء تجاه أي فكر معارض، مما يجعل الحركة أسيرة هواجس أمنية، ويدفعها لرفض أية مبادرات لا تنبثق من منطلقاتها الفكرية.
ونظراً لما تشكله هذه الرؤية من خطورة على مسار الثورة، فإن هذه الورقة تلقي الضوء على التحشيد الشعبي كوسيلة حتمية لبناء نظم سياسية رشيدة تشكل تياراً شعبياً ناضجاً، والتأسيس لمنظومة سياسية تقود الحراك الثوري عبر استعراض ثلاثة نماذج من أنماط التحشيد الشعبي في التاريخ السوري المعاصر، وهي:
1-    نموذج التحشيد الفئوي القائم على استقطاب الهويات المتعددة
2-    نموذج التحشيد الفكري القائم على مفهوم الدولة-الأمة أو الهوية الجامعة
3-    نموذج تحشيد القوى المجتمعية القائم على توظيف عوامل الجغرافيا السياسية في صياغة النظم

 

أولاً: نموذج التحشيد الفئوي (استقطاب الهويات المتعددة لتشكيل منظومة سياسية)
يرتكز هذا النموذج على تأسيس منظومة سياسية من خلال تشكيل ائتلاف هش يضم الهويات الرئيسية داخل المجتمع بناء على أسس مجتمعية: مناطقية ودينية وطائفية وإثنية وعشائرية، ويتشكل في عدة صيغ منها: نظام "الترويكا" المطبق في لبنان، ونمط المحاصصة الطائفية السائد في العراق، والنظم الفيدرالية القائمة على مفهوم الفرز المناطقي، وينطلق هذا النموذج من أسس متجذرة في التاريخ السوري الحديث والمعاصر:
فقد اتبعت الدولة العثمانية مع الأقليات الدينية في بلاد الشام نظام "الملة" الذي منحهم قضاءهم المستقل وإدارتهم الخاصة، واعترف لهم بـحماية قناصل الدول الغربية.
وفي مرحلة الانتداب (1920-1946) أمعنت السلطة الفرنسية في ترسيخ الثقافة الطائفية ونسّبت أبناء الطوائف إلى فرق جيش الشرق وعمدت إلى تقسيم الإقليم إلى خمسة دول على أسس طائفية هي: دولة لبنان، ودولة حلب ودولة "العلويين" ودولة "جبل الدروز" ودولة دمشق، ومارست السلطة الفرنسية حكماً مستقلاً للأكراد في إقليم الجزيرة.

 

وبعد فترة وجيزة من الحكم الديمقراطي (1946-1963) بادر نظام البعث إلى ترسيخ الهيمنة الطائفية-العشائرية، وأخذت هذه الصفة بعداً مؤسسياً في مرحلة حكم آل أسد (1970-2011).
ولا بد من التأكيد على أن مشكلة الأقليات لا تقف عند مطالب هذه الفئات بالمحافظة على الامتيازات التي منحها لهم النظام الفرنسي ورسخها حكم البعث، بل تمثل في حقيقتها مشكلة ديمغرافية يتعين التعامل معها بواقعية وحذر؛ ففي كثير من الحالات لا يقتصر الانتماء إلى الطائفة على المفهوم الاعتقادي فحسب؛ بل يمثل انتماء إقليمياً وعشائرياً لأبناء الطوائف في آن واحد، حيث تقطن الغالبية العظمى من عشائر العلويين في جبال الأنصارية مع وجود أقل في ريف حماة وحلب، ولاحظ فان دام بأن نسبة 62.1 بالمائة من العلويين يقيمون في محافظة اللاذقية، بينما كانت تتركز الغالبية العظمى من الدروز في جبل حوران (جبل العرب) بنسبة 87.7 بالمائة. ويقيم الإسماعيليون في منطقتي مصياف والسلمية.
وقد أدى تفوق العنصر العلوي في المؤسسة العسكرية إلى هيمنة هذه الفئة على الحكم المدني في فترة الانقلابات العسكرية، مما أدى إلى ظهور العنصر العسكري-الطائفي في إدارة البلاد.
وبناء على ما سبق؛ فيمكن تحديد مصادر القوة الكامنة لهذا النموذج في توظيف العصبوية: العشائرية-الطائفية-المناطقية، بالإضافة إلى ارتكازها على الهيمنة العسكرية والإرث التاريخي المعاصر.
ثانياً: نموذج التحشيد الفكري (توظيف مفهوم الهوية الجامعة أو الدولة الأمة)

 

يقوم هذا النموذج من خلال تأسيس هوية فكرية أو إيديولوجية جامعة عبر تغليب العوامل المشتركة بين غالبية أبناء المجتمع على أساس قومي أو ثقافي أو تاريخي، ويمكن تناول ثلاثة مشاريع في الفترة المعاصرة، وهي:
1- المملكة الفيصلية (1918-1920)
2- مشروع الوحدة مع العراق (1949)
3- الوحدة مع مصر(1958-1961).

 

وقد انتهت هذه المشاريع الثلاثة بالفشل نظراً لارتكازها على حركات قومية أثبتت عجزها عن تطوير أسس فكرية ناضجة، فالدولة القومية التي أسسها فيصل لم تستطع تقديم بديل عن الدولة الشرقية التي تمزج السياسة بالدين، بل اتخذت من النمط الغربي أساساً لبناء الدولة الحديثة التي قامت على قولة فيصل: "الدين لله والوطن للجميع"، إلا أن هذه السياسة كانت بالنسبة له سلاحاً ذو حدين، فبينما اعتبرها القوميون وسيلة لتوحيد المجتمع على أساس العرق واللغة بعيداً عن خلافات الدين والطائفة والمذهب؛ نظر أبناء الطوائف إليها كمحاولة لتذويب هويتهم في غالبية المجتمع.
وكذلك كان الحال بالنسبة لمشروع الوحدة مع العراق الذي وئد في المهد عام 1949، والوحدة السورية مع مصر التي لم تصمد لأكثر من ثلاث سنوات وبضعة أشهر وذلك على الرغم من نجاحها في عملية التحشيد الآني الذي قام على العاطفة والارتجال بدلاً من عملية البناء السياسي المتدرج والرصين.

 

وفي مقابل فشل المشاريع الوحدوية لجأت النظم الجمهورية إلى صياغة هوية قطرية ذات طابع شمولي يستند إلى العسكر وليس على التأييد الشعبي، ومن أبرز ملامح الدولة القطرية:
1-    الفكر القومي كمنطلق إيديولوجي
2-     الطابع الانقلابي-الثوري
3-     القائد العسكري رئيساً للجمهورية
4-     الحزب الحاكم

 

لكن هذه المنظومة السياسية قد انهارت بالكامل في مرحلة "الربيع العربي"، وبقيت مجموعة أسئلة عالقة لكل الحركات السياسية التي تبحث عن معالم الهوية الوطنية الجامعة وتأسيس الدولة-الأمة:
1-    ما هو النظام البديل لحكم سوريا في ظل انهيار حكم البعث؟
2-    ما هي معالم الهوية السياسية للدولة في المرحلة القادمة؟
3-     ما الذي سيحكم العلاقة بين الأعراق والطوائف والأديان في ظل التوتر المجتمعي الذي أذكاه الفرنسيون ورسخه البعثيون وبلغ ذروته من الاحتقان في مرحلة الثورة؟

 

ولا بد من الاعتراف بأن هذه الورقة لا تحاول الإجابة على هذه التساؤلات، بل تهدف إلى التنبيه إلى هذه المشاكل والبحث في: مدى قدرة الجماعات السياسية القائمة على مواكبة الحراك المجتمعي، وأهليتها لطرح مشروع حضاري يقدم رؤية وطنية تشمل جميع عناصر المجتمع، خاصة وأن البديل عن اضمحلال الهوية القطرية يترنح حالياً ما بين خيارين صعبين: خطر التقسيم الطائفي-المناطقي من جهة، وخطر الأقلمة المتمثل في هيمنة الجماعات الطائفية العابرة للحدود من جهة ثانية.
ففي ظل اندراس معالم الهوية المجتمعية للدولة، وفشل القوى السياسية في التوافق على مشروع سياسي وطني؛ تتصاعد نبرة الاستقطاب الطائفي والإثني وتهيمن الشبكات الراديكالية العابرة للحدود إثر مبادرة الإدارة الأمريكية بتمكين الجماعات الإثنية والطائفية من تولي حكم العراق عام 2003، مما أدى إلى اضمحلال الحكم المركزي في الجمهوريات العربية المتهاوية.
ثالثاً: نموذج تحشيد القوى المجتمعية (توظيف الجغرافيا السياسية في صياغة النظم)
يمكن تعريف القوى المجتمعية بأنها: "الجماعات السكانية التي تقع بين الدولة والأسرة"، وهي المجموعات السكانية الفاعلة التي لا تتدخل الدولة في تأسيسها أو توجيهها أو تمويلها، بل تقوم بتحديد برامجها وأولوياتها بعيداً عن الدولة وهيمنها.
ويدخل ضمن هذا المفهوم المجتمع "الأهلي" وهو المجتمع النشط غير المنظم وغير المنخرط في صيغ مؤسسية، بالإضافة إلى "المجتمع المدني" الذي ينشط من خلال جملة من المؤسسات الأهلية التطوعية الثقافية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية التي تعمل من أجل تلبية احتياجات مطلبيه أو سياسية أو اجتماعية، وترعى مصالح أعضائها أو تهتم بالشؤون العامة في المجتمع.
وقد أدى اضمحلال السلطة المركزية وانهيار نظم الحكم الجمهوري في البلدان العربية إلى تفعيل نشاط القوى المجتمعية غير المنظمة، والتي أخذت تتحرك في تيارات متباينة واتجاهات مختلفة لحماية مجموعاتها أو العمل على تحقيق المصلحة العامة.

 

وتنبثق أدوات تحشيد القوى المجتمعية من ثلاثية تقليدية هي: الأرض والدولة والأمة، ويمكن توظيفها في بناء منظومة سياسية رشيدة عبر أبعاد ثلاثة تعمل بالتزامن، وهي:
1-    المكان الذي تشغله الوحدة السياسية
2-    النظام السياسي القائم على الموقع الجغرافي ومصادر الثروة
3-    الأمة كمستودع للإجماع السياسي

 

والحقيقة هي أن قوى الثورة السورية تحتاج في المرحلة الراهنة إلى قدر كبير من "أنسنة" العمل السياسي والخروج به من إطار النصية إلى الآفاق المجتمعية وضرورة توظيفها؛ ففي الوقت الذي تختص فيه السياسة بالنظريات والنظم والعلاقات الدولية، تختص الجغرافيا السياسية بالعوامل الإنسانية في السلوك السياسي وتحديد علاقة الدولة بالمجتمع.
وكان ابن خلدون قد سبق المنظرين الغربيين في إعطاء الصفة الإنسانية للدولة عبر تشبيهها بالإنسان في مراحله الخمسة: الولادة والصبا والنضج والشيخوخة والموت، ومنذ ذلك الحين ارتبط مفهوم بناء الدولة بنظريات: "العقد الاجتماعي"، التي ترى أن السلطة في حقيقتها هي عقد بين الدولة والمجتمع.
وقد حاول الباحث في النموذجين السابقين تحليل تأثير الخصائص الطبيعية البشرية على السلوك السياسي للبلاد، حيث هيمن نموذج الاستقطاب الفئوي واضمحل مشروع الدولة-الأمة في القرن العشرين، مع ضرورة التنبيه إلى أن السبب المباشر لاندلاع الثورة في 18 مارس 2011 قد جاء كنتيجة مباشرة لفشل النظام في تقدير مخاطر البعد العشائري عند أهل حوران وما يتميزوا به من حمية ونخوة.
ولإنشاء بديل مؤسسي ناضج فإن الحركات السياسية المعاصرة تحتاج إلى دراسة العوامل المجتمعية لمراجعة أدواتها في الحشد السياسي وسعيها لتحقيق الإجماع الأهلي، مع ضرورة الوعي بأن الحراك السياسي لم يعد أحادياً (بالمفهوم القومي) أو ثنائياً (بمفهوم الاستقطاب الفئوي) بل أصبح تعددياً بامتياز، ولا بد من صياغة إستراتيجيات جديدة تتناسب مع المتغيرات المجتمعية وتعدد الفرقاء.

 

وبالنظر إلى التطور البنيوي في مسار الثورة السورية خلال السنوات الثلاثة الماضية؛ يمكن تحديد مكامن الخلل والقصور لدى القوى الفاعلة في تعاملها مع المجتمعات فيما يأتي:
1-    العمل من خلال بيئة حزبية مركزية يتراوح تاريخ تأسيسها ما بين العقد الثالث والسادس من القرن العشرين، دون أية مراجعة أو تطوير بنيوي.
2-    محاولة صياغة برامج ومنظومات سياسية على أسس قراءات نصية خاطئة لا ترتبط بالواقع وبطبيعة الدولة والمجتمع.
3-    الاستقراء الخاطئ لنماذج تاريخية من الحكم الرشيد، والركون إلى نظرية الدورة التاريخية لصياغة بنى مؤسسية معاصرة لا علاقة لها بالمجتمع.
4-    الركون إلى مفاهيم "القوة" الرديفة المتمثلة في الدعم الخارجي والسيطرة على الأرض، مع إهمال ملحوظ للعنصر الأكثر أهمية وحسماً في المرحلة القادمة وهو: الرصيد شعبي.

 

ويجدر التنبيه على أن عملية الحشد الشعبي لنظام سياسي رشيد يختلف في آلياته وأنماطه عن عملية الحشد في عملية انتخابية أو كسب أعضاء لحزب سياسي، وذلك من حيث: محاور الخطاب وملامح الهوية وآليات التعامل مع الخصوم، مما يدفع بالحركات السياسية إلى إعادة كتابة برامجها ومراجعة منطلقاتها الفكرية وتصحيح بنيتها التنظيمية وفق مفاهيم جديدة تعمل على استيعاب عوامل التحشيد المنبثقة من الجغرافيا السياسية، وذلك بهدف إنشاء منظومة سياسية جامعة رشيدة، وليس من خلال التأسيس لهوية "قومية" تعمل من خلال نظم قديمة لا تتناسب مع عمق التحولات الراهنة وطبيعة المرحلة، وهذا هو الخطأ الذي وقعت فيه الحركات القومية-اليسارية عندما نزعت إلى إلغاء الهويات الأخرى لصالح توليفة غير ناضجة من الخطب والشعارات.
ولعل الصيغة الأمثل لتأسيس منظومة سياسية رشيدة هي العمل على جمع العوامل المشتركة لدى أكبر عدد من المجموعات السكانية فيما يحقق المصلحة العامة ويجلب الأمن والاستقرار للدولة ولجيرانها، وذلك من خلال استقراء تطبيقات ونماذج الدولة الشرقية التعددية (cosmopolitan) عبر العصور.

 

أما البعد الآخر لمفهوم "أنسنة" العمل السياسي وضرورته في هذه المرحلة؛ فيكمن في ضرورة استيعاب علاقة المكان بالمنظومة السياسية وتأثير تطور العلاقات المجتمعية على الأمن الإقليمي والدولي.
ويمكن في هذا الإطار إعمال نظرية "العلاقة بين القلب والحافة" التي أسس لها عالم الجغرافيا السياسية "تايلور"، وتنص على أن المتغيرات التي تقع في مناطق ذات أهمية مركزية لا بد وأن تكون لها تبعات على الدول المجاورة، وذلك بخلاف الدول التي تقع في مناطق هامشية قد لا يكون للتطورات الداخلية فيها تأثير على المحيط الإقليمي.

 

وقد أثبتت أحداث الثورة السورية وجود ارتباط وثيق بين الأحداث الداخلية والأمن الإقليمي، حيث هيمن على المحللين الإستراتيجيين هاجس "مخاطر الامتداد الإقليمي" (Regional Spillover) للأزمة السورية بصورة واضحة، وعلى الرغم من وضوح المهددات الأمنية ومخاطرها؛ إلا أن أطروحات معظم القوى السياسية السورية لا تزال تقصر إدراك ارتباط الأوضاع الداخلية بالأمن الإقليمي والدولي، وتتعامل هذه القوى مع الأزمة من منظور منفصل عن سائر المؤثرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تنعكس بصورة مباشرة على القوى المجاورة وتؤثر على توازنات القوى في المنقطة.

 

ويظهر أثر هذا القصور في ضعف الأداء الدبلوماسي لدى الجهات التي تدعي تمثيل الثورة في المحافل الدولية وعجزها عن صياغة رؤى أمنية ناضجة تقوم على مفاهيم "الأمن التعاوني" أو "الأمن المشترك"، وانزلاق بعض السياسيين في شرك الاصطفاف الإقليمي الذي يضعف الإرادة الوطنية ويغلب المصالح الخارجية.

 

ومن خلال تقييم تجربة السنوات الثلاثة الماضية يمكن القول أن قوى الثورة تمر بمرحلة عصيبة من التطور البنيوي، إلا أن مفهوم "التدرج" وعامل الوقت قد أصبحا "رفاهية" يصعب القبول بها في ظل المشهد الإنساني المروع، ولعل الصيغة الأمثل لمعالجة هذه المشكلة يكمن في تعزيز الوعي السياسي لدى القوى الفاعلة وتوجيهها نحو الحشد الشعبي لبناء منظومة سياسية رشيدة تقود الحراك الثوري، ولعل الصيغة الأمثل للوصول إلى الاستفادة من هذه القوة الهائلة وتوظيف طاقاتها الكامنة يكمن في تعزيز الهوية الوطنية الجامعة بكامل أبعادها السياسية والإنسانية على حد سواء.