
لعل العبارة الأكثر تأثيرا التي نطق بها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في خضم تبريراته لضم جزيرة القرم إلى روسيا الاتحادية قوله: “لا يمكن مقاومة إرادة الشعب”.
بهذه العبارة كسر بوتين النظام العالمي المستند إلى قدسية الحدود، والمعاهدات، وخرق بشكل واضح كل مبادئ الأمم المتحدة وأهمها “وحدة أراضي الدولة واستقلالها”. وبهذه العبارة البسيطة رسم بوتين ملامح جديدة للمواجهة في العالم، لن تكون بالطبع محصورة في الجغرافيا الأوروبية بل ستتوسع لتشمل مناطق أخرى، ولعل أسخنها ستكون منطقة الشرق الأوسط؛ هذه المنطقة هي الأكثر أهمية لكونها خزان الوقود، ولكونها في وسط الكرة الأرضية، ومنها انطلقت حروب، وعليها جرت حروب منذ مئات القرون.
يعرف بوتين أن روسيا الاتحادية ليست الاتحاد السوفيتي، وأن كل ما لديه هو السلاح النووي الردعي، بعدما تقلصت حدوده بعد انتهاء الحرب الباردة، وانقلب الحلفاء إلى خصوم في أوروبا الشرقية، وانهار حلفاؤه في الشرق الأوسط، ولم تبق له إلا سوريا التي تنحدر، يوما بعد يوم، نحو ما يمكن تسميته بالدولة الفاشلة.
فالنظام السوري الذي تلقى كل الدعم من روسيا سواء عبر حمايته في مجلس الأمن، أو من خلال تقديم الأسلحة والعتاد والخبرات، وكذلك من خلال الموافقة الأميركية الضمنية على الدور الروسي، لن يعود بمقدوره الاستناد إلى تلك المعادلة. فالرئيس الروسي لم يعد شريكا، بل أصبح خصما لأميركا وللغرب، وهو الآخر كما نظام بشار الأسد يخضع لعقوبات متدرجة ومحاولات لعزله اقتصاديا ودبلوماسيا. وبهذا التطور يصبح منطقيا التوقع بحدوث تغيير وإن كان متدرجا على الساحة السورية.
كانت أميركا تعتقد قبل ضم جزيرة القرم أنه لا يوجد حل عسكري في سوريا، وأن الحل سياسي، وهذا الاعتقاد له أسباب ميكافيلية لخصها الرئيس باراك أوباما في مقابلته الأخيرة مع الصحافي غولدبرغ، حين استهزأ بمن يقولون إن إيران تنتصر في سوريا، ورأى أن سوريا صديقة إيران الوحيدة في العالم العربي، والعضو في الجامعة العربية، هي الآن في قلب الخراب؛ وتابع قائلا: ما يجري في سوريا يستنزف إيران التي عليها أن ترسل البلايين من الدولارات، وأن حزب الله (صنيعة إيران) الذي كان يشعر بالأمان في لبنان يهاجمه المتطرفون السنة في عقر داره؛ وكذلك يجد الروس صديقهم في المنطقة جالسا بين الخراب ومجردا من ثوب الشرعية.
هذه الاستراتيجية الأميركية (اللا أخلاقية) القائمة على حفظ التوازن بين المتعاركين بهدف استنزافهم جميعا، ستتعرض للتبديل والتغيير لأنها لم تعد تستند إلى الدور الروسي الإيجابي بعدما غير بوتين قواعد اللعبة في أوكرانيا، وضرب مبدأ قدسية الحدود الذي تجسد بعد الحرب العالمية الثانية؛ المتوقع الآن أن تكون الحرب مفتوحة على احتمالات عدة قد يكون أقصاها، إذا لم يتراجع بوتين، تردي العلاقة بين أميركا وروسيا إلى درجة تستوجب إزعاج بوتين في موقعه الأخير في الشرق الأوسط: سوريا.
تدرك الولايات المتحدة أن بوتين لا يملك في سوريا الكثير من مقومات الانتصار لأن سوريا محاطة بأنظمة تطالب جميعها برحيل الأسد، ولا تمانع أبدا بالتسريع في عملية إخراجه من السلطة، وإقامة نظام بديل يعيد التوازن والاستقرار إلى سوريا.
وتعرف الولايات المتحدة أن ذلك يتطلب منها التعديل في سياستها الراهنة لا سيما وأن المنطقة العربية تشهد تفتتا كبيرا سيسمح للروس في حال استمراره بالدخول مجددا وبقوة إلى المنطقة، ولعل زيارة وزير الدفاع المصري (السابق) والمرشح الرئاسي الحالي المشير عبدالفتاح السيسي إلى روسيا وما لاقاه من ترحاب خير شاهد على ذلك. وبهذا فإنه سيكون منطقيا أن تعمد إدارة أوباما إلى إعادة النظر في مواقفها، والتفكير في حل الأزمة المصرية بطريقة تضمن للجميع حفظ ماء الوجه لا سيما وأن تلك الأزمة أصبحت عنصرا مفرقا في المنظومة العربية، وثغرة ينفذ منها اللاعبون الإقليميون.
لكن الحل الأميركي لا يمكن أن يكون دعما مطلقا للنظام القائم في مصر، بل وفق قاعدة ما يسمى التسوية المقبولة، وذلك لأن الوضع في مصر لم يعد محليا بل أصبحت له روافد إقليمية لا بد من إرضائها، علاوة على أن أوباما رسّخ صورة عن نفسه بأنه يدافع عن الديمقراطية، ولهذا فإن أية سياسة أميركية للحل لا بد وأن تكون على قاعدة المصالحة المعقولة، بحيث تلعب مؤسسة الجيش المصري الدور الرئيس في الحياة السياسية تمهيدا لمرحلة مستقبلية يتسلم فيها المدنيون السلطة، تماما كما حدث في تركيا بعد انقلاب عام 1980 بقيادة الجنرال كنعان ايفرين.
إن إدخال مصر مجددا في التوازن الإقليمي سيعدل كثيرا من قواعد اللعبة في المنطقة وستكون أولوية أميركا ضمان نفوذها القوي، وتكون أولوية العرب إعادة ترتيب البيت العربي على قاعدة تسوية الأزمات ومنها الأزمة السورية. ورغم أن صعوبات ترتيب البيت العربي كبيرة، إلا أن تغير المعطيات الدولية سيكون عنصرا مساعدا في تسهيل عملية الترتيب لأن السياسة الأميركية ستكون، خصوصا إذا ما فشل التقارب الأميركي- الإيراني، محبذة للتقارب وحل الخلافات وإيجاد الحلول، على اعتبار أن ذلك من شأنه أن يقلص دائرة النفوذ الإيراني في المنطقة، ويحرم الروس من التواجد على شواطئ المياه الدافئة.
هذا التشخيص للتحولات الدولية وتأثيراتها على المنطقة يتطلب بلا شك رؤية واضحة من قادة الدول في المنطقة، وقدرة متميّزة على قراءة المتغيرات واستغلالها لما يخدم مصالحها؛ ويتطلب من القيادة العسكرية في مصر، وقيادات المنطقة الليونة والمرونة وتغليب المصالح على المواقف الأيديولوجية.
هل سيتحقق هذا الحل؟
هذا يتوقف بالتحديد ليس على أميركا بل على قادة دول المنطقة لأنهم هم المعنيون بما يجري، ولأنهم هم الذين يجب أن يعرفوا كيف يمكن الموائمة بين المستجدات الدولية والحاجة الأميركية لهم، وتسخير كل ذلك لما يخدم مصالحهم.
فالعرب يواجهون الآن تمددا إيرانيا ورغبة أميركية في تسوية تاريخية مع إيران، وإذا ما تحققت تلك التسوية فإنها ستكون ضارة بلا شك للعالم العربي، لأن العرب لا يملكون الكثير من الأوراق في الوقت الراهن الذي يعيش فيه العالم العربي أسوأ حالاته.
فإيران تشعر الآن أنها تمددت أكثر من المطلوب في العالم العربي، وأن استمرارها بهذا الزخم، وضمن منطق اللعب على الغرائز الدينية، سيؤدي إلى الإضرار بها، لا سيما وأنها بدأت تشعر بعواقب هذه السياسة في سوريا بالذات؛ كما تدرك إيران أنها لا يمكن أن تغير ديمغرافية المنطقة، وبالتالي فإن اللعب على الوتر الطائفي، واستخدام الأقليات سيكون مردوده عليها باهظا جدا.
هذا الواقع، وتلك القراءة تستدعي التفاؤل بأن بإمكان العرب، هؤلاء المناوئين للتدخل الإيراني، تصحيح الخلل في الموازين عبر القراءة الموضوعية للتغيرات الدولية، ومن خلال فهم الواقع الإيراني، وبالتالي الصمود، ومحاولة تغيير قواعد اللعبة، التي ستجبر ليس فقط إيران بل الولايات المتحدة على إعادة النظر في مصالحها.
فأميركا- إذا ما عرف العرب كيف يتصرفون- ستكون حتما في صف من خبرتهم طويلا وفي صف مصالحها في العالم العربي.
في السياسة لا يجب انتظار التغيرات بل لا بد من العمل ووضع الخطط، وتصور الحلول، وعقد التسويات بهدف الوصول إلى الهدف المنشود، والأزمة الأوكرانية، وغرق إيران في الوحل السوري، أمران أعطيا العرب فرصة ذهبية يجب أن لا يضيعوها.
المصدر/ العرب اللندنية