( أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ(1) أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ(2) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ(3) تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ(4) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ(5))
تُرى..
هل جاءت "العصف المأكول" 2014 تتمة منطقية لحرب "حجارة السجيل" 2012 التي أعلنتها المقاومة الفلسطينية من قبل؟! أجاءت تسميتها بشكل عفوي، أم لها دلالة استراتيجية ما؟
هل عمدت المقاومة إلى اتخاذ هذا المنحى القرآني في تسميات عملياتها الكبرى للرد على العدوان الصهيوني على غزة، كرد يحمل معنى إسلامي على تسميات توراتية درج الكيان الصهيوني على تسمية عملياته العدوانية على مسلمي فلسطين وغيرها كذلك؟
أتُراها اعتمدت هذا التشبيه تحديداً لتبث رسالتها للمسلمين عموماً، والنظم بالتبعية بأن قوة الحق لا تحتاج إلى تقنية عالية، ولا قوة باطشة، وإنما يكفيها أن ترمي بحجارة صغيرة لتزلزل أركان الباطل، كما فعلت حجارة السجيل بأبرهة وجنوده الباغين؟
أتُراه رداً على وسائل الإعلام الصهيوعربية التي طالما هزأت بصواريخ المقاومة في مهد تصنيعها لتصرخ بوجهها أن حجارتنا التي كنتم تهزؤون قد استحالت سجيلاً يقصم ظهر أفيال الصهاينة وأدواتهم في بلاد الإسلام؟
أم تُراها رسالة لكل محبط ويائس من طغيان الباطل في المنطقة بأن الفرج آت مثلما جاء في خاتمة سورة الفيل العظيمة، وأن الحجارة الصغيرة التي لم يكترث بها لناس يوماً سيكون لها شأن وشأن ولو بعد حين؟!
إن اختيار "العصف المأكول" له من معظم هذه المعاني نصيب، ولربما كان له من معانيها الاستراتيجية أيضاً؛ فدعونا نقترب من واقعها أكثر..
لقد تطورت أدوات المقاومة من الحجر حتى الصواريخ التي لم تكن فاعلة إلى حد ما، صارت مؤثرة عسكرياً وسياسياً على نحو لم يعد ممكناً تجاهله، ويزيد ذلك أن مناخ هذا التطور يزيد من عبقريته وبراعته..
لنفصِّل:
- "العصف المأكول" بمثابة اختبار لكتائب القسام، وللكيان الصهيوني، الأولى في قدرات صواريخها، مداها، نسب نجاحها في تحقيق إصابات مباشرة، قدرتها على حمل رؤوس تفجيرية أشد تفجيراً، توزيعها الجغرافي، قدرتها على إخفاء منصاتها، مدى فعالية المضادات الأرضية، وتهديدها للمروحيات "الإسرائيلية".. والثاني في مدى تمكنه من إيقاف ذلك عبر منظومة القبة الفولاذية. وبالنظر إلى ما تم إنجازه؛ فإن النجاح في تطوير مدى صواريخ القسام وقدرتها التدميرية لافت للنظر، حيث غدت تلك الصواريخ أسلحة ردع لها اعتبارها في أي حرب، لاسيما بعد أن أثبتت نجاعتها في إصابة أهداف مزعجة جداً للكيان الصهيوني كتل أبيب (مطار بن جوريون تحديداً) والقدس، وحيفا، وديمونا، وميناء أسدود، ومواقع من شأنها مضاعفة التأثير التدميري كمصانع البتروكيماويات ومحطات الوقود.. في المقابل؛ فإن منظومة القبة الفولاذية تمكنت من إيقاف أثر بعض الصواريخ، وهذا إنجاز تقني بحد ذاته، لكنه يظل محدود الأثر بالنظر إلى أن بعض الصواريخ يمكنها أن تمر بلا اعتراض، وخصوصاً أن التقديرات الأولية تضع نسبة 30% فقط لما نجح الكيان الصهيوني في اصطياده من صواريخ القسام والفصائل الفلسطينية الأخرى، وهذا يجعل التهديد دوماً قائماً..
وفي هذا السياق؛ فإن من يتراءى لأول وهلة من مسح للأهداف، أن كلا الطرفين يقف عند حد تصعيد معين، يمكن تفهمه من تصريحات الناطق باسم كتائب القسام أبو عبيدة، بأنهم ما زالوا يعتبرون هذه العملية "محدودة"، ومن ذاك المقابل عند الصهاينة؛ فيلاحظ أن قادة حماس ليسوا مستهدفين ـ على ما يبدو ـ حتى الآن ولا مقر الحكومة ونحوها، ولا ثمة إشارة عن استهداف الكتائب لمواقع استراتيجية من المستوى الأعلى كمبنى مجلس الوزراء أو الكنيست أو مقر وزارة الدفاع..الخ، وبالتالي؛ فالبادي أن كلا الطرفين لا يود التصعيد أكثر، وهذا يعني من الجانب الصهيوني أن ثمة ما يتخوف منه عند التصعيد، وهو ما يتجسد في "معادلة الردع" التي نجحت القسام في تحقيقها.
- ثمة سرعة غير مسبوقة لطلب "إسرائيل" لوقف إطلاق النار عبر وسطاء، ولو كان بصوت خافت حتى الآن؛ فلقد شاهد العالم أثناء عملية "حجارة السجيل" لأول مرة، الكيان الصهيوني وهو يهرع إلى الولايات المتحدة لطلب الهدنة في حرب هو من فجرها، وضد فصيل فلسطيني، وليس جيشاً نظامياً عربياً، واليوم صار الأمر اعتيادياً أو متوقعاً من قبل كثيرين، حتى الصهاينة والأمريكيين أنفسهم بادر كتابهم إلى استشراف ذلك، وبعضهم أشار للمقارنة إلى "الدور المصري في عهدي مرسي والسيسي"، بما يدل على أنهم يتطلعون لاتفاق مشابه لاتفاق 2012 تحت رعاية القاهرة. وهذا، إن كان له دلالته السياسية؛ فإن له انعكاسه الاجتماعي داخل فلسطين المحتلة، لدى الصهاينة؛ فطلب الهدنة صار مطلباً مجتمعياً مألوفاً مع تقاطر الصواريخ فوق رؤوس المحتلين، وهذا بدوره له انعكاسه المستقبلي على الروح المعنوية للجيش الصهيوني وحاضنته "الشعبية".
- على عكس عدوان 2012 الذي كان يتضمن اختباراً لموقف حكومة الرئيس محمد مرسي، ومدى "اندفاعه" في دعم المقاومة الفلسطينية أو "براجماتيته" في لعب دور الوساطة؛ فإن عدوان 2014 يخلو من هذا المعنى، وإنما يقع الاختبار في الاتجاه الجيواستراتيجي ؛ فهو يتضمن اختباراً لمرونة المقاومة الغزاوية على التعاطي مع حرب بلا ظهير استراتيجي لها، ووسط ظروف غير مسبوقة، حتى أثناء حكم مبارك، حيث تتحدث المصادر العسكرية المصرية عن تدمير نحو 97% من الأنفاق التي تربط ما بين سيناء وغزة ويتردد أن معظم الأسلحة ومكوناتها تمر عبرها، ولقد بدا الاختبار غير ذي جدوى كبيرة، إذ حشرت قيادة العملية الصهيونية بين سندان الرغبة في استنفاد المخزون الغزاوي من الصواريخ، والذي تقدر الشابك الصهيونية بأنه محدود بلا رافد جديد، ومطرقة الصواريخ ذاتها، والتي أضحت ذات بأس لا يمكن الصبر طويلاً على تحمل ضرباتها، لاسيما مع إخفاق القبة الفولاذية على اصطياد صواريخ أصابت أهدافاً حساسة.
- تبين من خلال "السخاء" القسامي في إطلاق الصواريخ، وضبط إطلاقها في آن واحد، أن حركة حماس لا تعاني مشكلة كبيرة في مخزونها الاستراتيجي من الصواريخ والقذائف، وأنها باتت تصنع معظم هذه الصواريخ رغم تطورها، ولم تعد تقتصر على تصنيع الصواريخ البدائية، وتستورد الحديثة منها، وهذا أمر مقلق للكيان الصهيوني، إذ لا يمكنه المناورة طويلاً في منع وصول مواد أولية لغزة يمكن أن تستخدم في تصنيع أسلحة.
- بعقد مقارنة بسيطة بين إخفاق آسري الجنود الصهاينة الثلاثة على الاحتفاظ بهم أحياء في الضفة الغربية، وبين نجاح المقاومة في الحفاظ على سرية مخازن الصواريخ في غزة، في أنفاق تخضع لتمويه وإخفاء عالٍ، إلى الحد الذي أرهق الاستخبارات الصهيونية، حتى قال صحفي صهيوني قبل أيام:" نكتشف الآن أن هناك غزة تحت غزة، لا نعرف عنها شيئاً! من أين تأتي هذه الصواريخ؟!".. (ومن قبل الاحتفاظ بالجندي شاليط لسنوات)، يتضح الفارق الجلي بين نظامين هنا، وهناك، أو بالأحرى قوتين مسيطرتين، وأن النجاح الاستخباري رهين بقدر من السيطرة فرضته المقاومة في غزة تحت طائلة التفوق العسكري على النظير الفصائلي، وملاحقة مستمرة للخونة من جواسيس "إسرائيل" في غزة.
- يبدو أن غضب النظام المصري من حركة حماس التي يتهمها باقتحام السجون المصرية إبان انتفاضة يناير سيقلص كثيراً من حظوظ القاهرة في لعب دور وساطة قد تحتاج إليه "إسرائيل" أو تحتاجه المقاومة إذا سارت الأمور على غير ما هي سائرة عليها الآن، ولذا؛ فقد بدا أن لاعبين جدد سيدخلون إلى لعبة الهدنة بعد أن كانت غزة امتداداً قومياً لمصر لم تفقد نفوذها فيها حتى إبان حكم مبارك، كما يظهر أن علاقة النظام بجماعة الإخوان التي تصنفها حكومة محلب على أنها "إرهابية" ستؤثر كثيراً على مساحة المناورة التي ستحاول القاهرة اتخاذها حال لجأت تل أبيب لها. وقد أثرت هذه العلاقة الشائكة بين نظام القاهرة وغزة على حجم المتاح من المسموح به لإبداء تضامن مع شعب عربي مسلم يواجه قنابل وصواريخ طائرات الكيان الصهيوني المتنوعة.
- منسوب الخيانة لدى بعض المثقفين والإعلاميين، حيال قضية فلسطين، وتماهيهم مع الموقف الصهيوني، إلى حد تورط كبريات فضائيات عربية في دعم الكيان الصهيوني وبث أخبار إرجافية ضد المقاومة الفلسطينية (بثت أحدها خبر كاذب عن حشود برية بغرض كشف خطة الدفاع الغزاوية للصهاينة)، زاد إلى حد طافح، وإلى ارتفاع ـ بل انحطاط معنوي ـ غير مسبوق، وصار لدى النخبة العلمانية ثمة وجهة نظر وتعدد آراء حيال ما يجري في غزة من عدوان صهيوني، وليس مسألة مبدأ لا يجوز أن تتخلف "النخبة" فيه عن عموم الجماهير الإسلامية والعربية المتعاطفة مع أهلنا في غزة. هذا، وإن كان مريعاً؛ فإنه يتسق مع مواقف أخرى أضحت كاشفة لأنظمة ومؤسسات وشخصيات تدثرت بالوطنية وأظهرتها الأحداث كخونة مرتزقة زوار سفارات احتلال. ولذا؛ فحيث الحديث عن "العصف المأكول" استراتيجياً فلا يعد الحديث عن فضائيات المارينز خروجاً عن السياق، بل استكمالاً للحديث عن العدوان الصهيوني بكل أوجهه وتشكلاته.
- عند متابعة نتائج حرب يشنها الكيان الصهيوني لابد من النظر إلى ردات فعله على الهجمات المضادة من المقاومة، لا إلى خسائره ذاتها، لأن خسائره مما اعتاد الكيان الغاصب إخفاءها، ولذا فهي تستشف فقط من حجم ضرباته التالية أو سياسته اللاحقة أو تجاوبه مع وساطات غالباً ما يقف هو وراءها، وسرعة تجاوبه، وما إلى ذلك، خصوصاً إذا كانت هذه الخسائر في العرف الصهيوني "عسكرية"؛ فهي تخضع لدرجة أعلى من التعتيم، تعودنا عليها منه كثيراً؛ فلقد كان من الملاحظ إبان العمليات الاستشهادية التي تستهدف حوافل الصهاينة أن ما يستهدف باصات عسكرية خلاف المدنية في حجم الخسائر (وصلت أحياناً لنسبة 1:10 مما يعلن في الخسائر البشرية "المدنية" (مع إقرارنا بأنه لا يوجد مدني في الكيان الصهيوني)، ولذا، ففي عملية زيكيم العسكرية لم يكد يرشح عنها شيء من الخسائر على الرغم من توقع وقوع عدد كبير من القتلى من جنود "إسرائيل"، حيث تعمدت "إسرائيل" أن تبث مقطعاً مفبركاً للعملية النوعية التي بثت رعباً هائلاً في القاعدة العسكرية الصهيونية وفي قيادة الجيش الصهيوني نفسه، ولعل مما يلحظ من تأكيدات وزير المخابرات والشؤون الاستراتيجية الصهيونية يوفال شطاينتس في حديث للإذاعة العبرية العامة فور العملية بأن كل "المعارك العسكرية تشهد مفاجآت"، ومحاولته تقليل أثرها بالقول "حماس حركة ضعيفة نتيجة التحولات الجيوسياسية في المنطقة، ونتيجة موقف مصر المعادي لها"، واستقوائه بالنظام المصري بقوله: "هناك علاقات سرية هامة بين تل أبيب والقاهرة بهذه الأيام"، كما أن صور بعض العمليات يوحي بسقوط قتلى وجرحى كثيرين فيها. لكن مع هذا؛ فإنه حتى لو لم تحدث خسائر في الجانب الصهيوني؛ فإن الوقع النفسي لسقوط الصواريخ في المدن كبير، ومفض إلى ضغط شعبي يتنامى مع الوقت ليضطر الحكومات إلى الاستجابة له، ولو كانت حكومات ديكتاتورية لا تلقي بالاً لتطلعات شعوبها، فرغم قبضة الخميني الفولاذية على إيران، وتأثيره الديني على مواطنيه فإنه اضطر حين تساقطت صواريخ صدام حسين على العاصمة الإيرانية لقبول الهدنة و"تجرع السم" على حد تعبيره قبل ربع قرن.
هذا، ولقد كشفت الحرب أن المقاومة في غزة ليست يعوزها سلطة لتلقن "إسرائيل" دروس العزة.. حتى الآن، حيث لم تبح عملية "العصف المأكول" بكل أسرارها ولا تفاصيلها بعد.. وما زال في جعبة الأيام الكثير..