4 جمادى الأول 1436

السؤال

السلام عليكم ورحمة الله.. جزاكم الله خيرا على ما تقدمونه، وجعل ذلك في ميزان حسناتكم ونفع بكم الإسلام والمسلمين..
أما مشكلتي فتتعلق بأبي الذي يبلغ من العمر 68 سنة، وهو رجل متدين وإمام مسجد، وكذلك أمي هي متدينة وتحب الخير للناس وهي قريبته، وقد تزوج أبي قبل ثلاث سنوات من امرأة مطلقة في الثلاثين من جنسيه عربية، ثم طلقها بعد شهر..
فغضبت أمي وذهبت إلى مكة، وطلبت الطلاق لأنها تقول: كيف يتزوج أبي عليها وهو قد هجرها في الفراش منذ أكثر من سنتين..
وبعد طلاق أبي من زوجته الثانية، أصبح يلوم أمي ويتهمها بأنها السبب، فساءت العشرة بينهما..
ومضت ثلاث سنوات ثم تزوج أبي من فتاة سعودية عمرها 27 سنة، وعندما أخبر أمي غضبت منه وقالت له.. لن اجلس معك، وسأشتري لي بيتا وأخرج، فاستجاب لطلبها..
وسافر أبي إلى ماليزيا مع زوجته الثانية، وانتقلت أمي إلى بيتها الجديد، وعندما عاد أبي من السفر ساءت علاقته بنا، وأصبح يلومنا ويتهمنا بالعقوق، لأننا لا نتواصل مع زوجته الجديدة، ولا نشتري لها هدايا، ونحن نرفض ذلك مراعاة لمشاعر أمي، خاصة وأنها تحب أبي كثيرا وتغار عليه، ونحن لم نسئ إليه بشيء إلا أننا طلبنا منه أن يحسن عشرة أمي وأن يطيب خاطرها فرفض..
وأصبحنا لا نجتمع به إلا ساعة في الأسبوع في بيت أختي، وحملت زوجته وأسقطت بعد 6 أشهر، فثار علينا مرة ثانية وطلب منا أن نعزيها ونواسيها ونتواصل معها وإلا سيغضب منا ونكون عاقين، ونحن نخشى على صحة أمي المريضة بالسكر، مع أنها لا تمانع أن نلبي طلب أبي، ولكن يظهر عليها التأثر والحزن..
فأرشدونا جزاكم الله خيراً.. كيف نتعامل مع أبي؟ وكيف نقنعه أن لا يلزمنا بتنفيذ طلبه حتى تهدأ الأمور، وتتحسن نفسية أمي؟ ونحن في حيرة بينهما فماذا نفعل؟
نسأل الله أن يفرج عنكم وأن ينفع بكم الإسلام والمسلمين.

أجاب عنها:
صفية الودغيري

الجواب

بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: أختي السائلة الكريمة، بداية بارك الله في والدك ووالدتك الكريمين، ووفقك الله لبرهما وإرضائهما..
وبداية أقول: إن هذه المشكلة الأسرية لا تُحَلُّ إلا بسياسة رشيدة وحكيمة، وبالبحث عن الحلول المناسبة لتحقيق الاستقرار الأسري بين الآباء وأبنائهم..
ولهذا أنصحك أختي الكريمة بأن لا تجعلي من غاياتك إرضاء جميع الأطراف لأنها غاية لا تُدْرَك، ولكن ركِّزي اهتمامك على الإصلاح بين والدك ووالدتك، وإرضائهما وبرهما ما استطعت لذلك سبيلا..
ومن الحلول التي تساعدك في ذلك ما يلي:
أولا: جدِّدي العلاقة بين إخوتك ووالدك ووالدتك، وابْعَثي المعاني الإنسانية النبيلة التي تصِلُهم بصِلات الرحمة والمودة والمحبة، مصداقا لقوله تعالي: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} النساء:36..
ثانيا: وثِّقي رابط العلاقة فيما بينكم من جانبها الحقوقي، في جو من الوئام والاحترام والتقدير، والالتزام بواجب الرعاية، والبر والطاعة في غير معصية، وواجب النصيحة والإرشاد، وواجب المعاشرة بالمعروف، لقوله تعالي: {وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُون} العنكبوت:8، وقوله تعالى:{وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ، وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} لقمان:14-15، وقوله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا، وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} الإسراء:23- 24.
فإذا استوفيتم ما عليكم من التزامات وحقوق وواجبات تجاه الوالدين الكريمين، وحفظتم كرامتهما، وكنتم بارين بهما، سقط عنكم ما هو مُتَجاوَز عنكم..
ثالثا: واجبك وواجب إخوتك تذكير والديك الكريمين بطاعة الله ومرضاته، وأن من شروط الطاعة معرفة الحق والعمل به، والوفاء بحقوق وواجبات كل منهما اتجاه الآخر، والتزام القسط والعدل والإنصاف فيما بينهما، وإرشادهما دون كَلٍّ أو ملل لاتباع طريق الهداية والاستقامة، وتزكية النفس وإصلاحها، والله سبحانه يتكفل بهدايتهما إلى سبيل الرشاد بقدرته، اتِّباعا لتوجيه الحق سبحانه وتعالى لنبيه محمد صلوات الله وسلامه عليه حيث قال: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} القصص:56، وقال تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} البقرة: 272..
رابعا: وبالنسبة لوالدك..
ــــــ أنصحك بالاستعانة بأحد الأقارب أو الأصدقاء، أو الثقاة العدول من أهل العلم والصلاح، ومن لهم مكانة وتأثير وسلطان عليه، ومن يمتلكون أسلوبا مقنعا بمنهج دعوي، فمثل هؤلاء لديهم تمكُّن وقدرة على توجيه والدك للصواب، وإعادة توثيق وشائج الصلة بيته وبين والدتك من جهة، وإصلاح علاقته بأبنائه من جهة أخرى، وتطهير النفوس من أسباب النٌّفْرة والجفاء، والغضب، والمشاحنات والخلافات، وتصفية القلوب وترطيبها بالموعظة الحسنة، وتحلِيَتها بالقيم الإيمانية، وبعث رقابة الله تعالى والخجل منه، والإذعان للحق والعمل به.
خامسا: أما بالنسبة لوالدتك..
ــــــــ فهي تبدو امرأة طيبة وتحب الخير وتخاف الله تعالى، فتملكين أن تحسِّني علاقتها بوالدك، بإقناعها بإرضائه وطاعته، ومعاشرته بالمعروف، تنفيذا لأمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، الذي حثها على طاعة زوجها في أحاديث كثيرة، منها: حديث أبى هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها"
وحديث عبد الله بن أبي أوفى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لو كنت آمراً أحدا أن يسجد لغير الله تعالى لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها والذي نفس محمد بيده لا تؤدي المرأة حق ربها حتى تؤدي حق زوجها كله حتى لو سألها نفسها وهي على قتب لم تمنعه "..
سادسا: كثيرا ما تؤثر العواطف غير المنضبطة بضابط العقل والحكمة إلى الانحراف عن الحق، والوقوع في الخطأ ولو بدون قصد..
ــــــــــ فاحْرصي على الحق والعدل والإنصاف في نظرتك لوالدك، ولا تقيِّمي علاقتهما من خلال مشاعرك الخاصة، ولا من خلال ما يحكيه كلاهما عن الآخر، لأن العلاقة بين الزوجين يكتنفها كثير من الغموض والأسرار التي لا يسبر أغوارها غيرهما..
ــــــــــ حافضي على علاقتك وعلاقة إخوتك بوالدك الكريم، ولا تتحاملوا عليه كأنه مذنب أو متهم، ولا تميلوا كل الميل لأحد الطرفين على حساب الآخر، أو تندفِعوا وراء عواطفكم بالكامل، أو تحيدوا عن الحق مراعاة لسلامة وصحة والدتك..
ــــــــــ حافظي على علاقة المودة والرحمة والمحبة التي كانت تربط بينكم وبين والدك، وتواصلوا معه ومع زوجته الثانية ولو في مناسبات خاصة ولو في أضيق الحدود، إرضاء لرغبته وطاعة له، وتجَنُّبا لغضبه وسخطه، خاصة وأن والدتك لم تمانع ولو كان شفهيا، أما ما تشعر به من حزن والم فلا يمكن إصلاحه برفض طلب والدك وعصيانه، بل الزمن هو الكفيل بأن يخفف معاناتها، ويجعلها تتعود على هذا الوضع الجديد، وبالتالي تعود المياه إلى مجاريها العذبة كما كانت من قبل..
سابعا: أنصفي والدك باستقلال عن ارتباطك بوالدتك، وتذكري بأنه رجل متـدين وهو يؤمُّ الناس ـــــ كما ذكرت في رسالتك ـــــ وبالتالي فهو لم يقدم على الزواج الثاني إلا لضرورة شرعية، أو لحماية نفسه من الفتن ومن الوقوع في معصية الله، أو ربما لأسباب خاصة لم يذكرها احتراما لمشاعركم، وحفاظا على كرامة والدتك ومكانتها، ومراعاة لمشاعرها أن تخدش، وحفاظا على العشرة بينهما، أو ربما لظروفها الصحية..
ثامنا: والدتك كذلك تحتاج إلى من ينصفها، كمرأة لها عاطفة كبيرة وحب شديد لزوجها، مما يبرر لها غيرتها عليه، وعدم تقبلها لزواجه الثاني، ولهذا فهي تحتاج خلال هذه المرحلة إلى صحبة صالحة ورفقة طيبة، وتحتاج إلى دعم نفسي كبير من خلال حب أبنائها ومساندتهم، ووجودهم حولها، واحتوائهم لمشاكلها، واستيعابهم لهمومها، والتخفيف عنها..
فحاولي بمساعدة إخوتك أن تملئي حياتها بوجود من تحبهم حولها، من الأهل، أو الجيران، أو صحبة طيبة تعيد إليها ثقتها بنفسها، وتعينها على تجاوز هذه المحنة وتقبل زواج والدك إرضاء لله تعالى وإذعانا لحكمه.
وفي الختام أقول لأختي الكريمة: هناك علامات استفهام كثيرة واحتمالات تجهلينها، تدعو كلا من والدك ووالدتك خلال هذه المرحلة إلى الشعور بالغضب لأتفه الأسباب، لأن نفسيتهما لم تستقر بعد، وكلاهما يحاول أن يعبر للثاني عن حبه ومودته فيسيء إليه من عير أن يفصد جرحه أو إهانته..
فما عليك أنت وإخوتك إلا أن تتقبَّلوا هذه المرحلة الانتقالية، وتتعودوا عليها بالتدريج، وواجبكم يحتم عليكم أن تشتركوا جميعا وتتحدوا في إشاعة الدفء الأسري، وتحقيق التغيير والإصلاح، واليكن كل فرد منكم مثالا يحتذى به في البر، والطاعة، والإحسان، والاستقامة في القول والفعل، وبعث قيم الفضيلة، والأخلاق الإسلامية، وإنعاش حياتكم بما هو نافع، ودمج والدك ووالدتك فيما يعود عليكم باغتنام الأجر والثواب ويشغل عن الحرام عقد مجالس علمية، وزيارات هادفة، وإنجاز أعمال ذات أهداف نبيلة وقيمة عظيمة.
أسأل الله العلي القدير أن يصلح ذات البين بينكم.. ويؤلف القلوب وينشر المحبة والمودة والرحمة بينكم..