9 محرم 1437

السؤال

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أنا شاب عمري ٢٩ سنة، ملتزم وعاقل إن شاء الله، قضيتي ومشكلتي مع نفسي وخاطري، فقد عانيت ظلمًا وتهميشًا من والدي، فوالدي رجل معدد وغني، ولكنه بعد التعدد تغير علينا، كل يوم يمضي من حياتنا معه نرى منه تغيُّرًا أكثر، حتى وصل الأمر إلى درجة الظلم والأذى لنا وسوء الظن بنا، تعبنا وتأثرنا كثيرًا، دعونا الله له، وحاولنا أن نصلح قدر المستطاع، وصبرنا عليه.
وعلى الرغم من أني أقوم مقامه، وأقضي حوائج أمي وأخواتي ولوازم البيت عنه، وكل ما يطلبه مني، ولم أرفض له أمرًا أبدًا، بل لم أقل له كلمة لا، ولكن! كل ذلك لم يؤثر فيه.
الشاهد أن الوالد ازداد في ظلمه وطغيانه وكبره وأذاه، مما لم يخطر ببال أحد، حرمنا من حقوقنا، وقطع أواصر علاقتنا بأقاربنا بمكر وكذب، وهتك سترنا وخاصة أنا، وكشف عوراتنا، وتسبَّب لنا في عذاب شديد، وآلمنا جدًا، أحرق قلوبنا وفطَّر أكبادنا، ولم يرقب الله فينا.
أصبحت أكرهه كرهًا شديدًا، وأدعو عليه بأن يخلصنا الله من ظلمه وأذاه، لا أستطيع أن أحبه، وعندما أراه كأني أرى الشيطان، فالذي فعله بي ليس بسيطًا، حرمني وحاصرني وشمت بي الناس، وكشف عورتي حسبي الله ونعم الوكيل، مع أني والله وأنا أدعو لأمي أتذكره، وأقول على الأقل هو أطعمني في صغري، فأدعو وأقول ربي ارحمهما كما ربياني صغيرًا، وفي صدري ضيق مما أجد في نفسي عليه، أطلب منكم الدعاء لنا أن ينجينا الله من ظلمه، فهل علي شئ؟ وبم تنصحونني؟.
وهل من نصيحة لنا؟؟.

أجاب عنها:
سعد العثمان

الجواب

الحمد لله وحده، والصَّلاة والسَّلام على من لا نبي بعده، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
أخي السائل: ذكرتَ في معرض الحديث عن مشكلتكَ، أنك تعاني من سوء معاملة والدك لك خصوصا بعد زواجه بأخرى، وذكرت تفاصيل عامة تنبئ عن سوء تصرفاته معك خصوصًا، ومع والدتك وإخوتك عمومًا، فلا تقلق أخي الفاضل، فقد وصلتَ إلى برِّ الأمان، فإخوانك في موقع المسلم عندهم العلاج الناجع – بإذن الله - لمشكلتك، والتي يمكننا معالجتها باتباعك للإرشادات والتَّوجيهات الآتية:
أولاً: ما هو الظلم الذي وقع عليك من والدك؟
قرأت رسالتك أخي الحبيب مرات محاولًا أن أجد نقاطًا فعلية تبرر كرهك لوالدك فلم أجد، وإنما ذكرتَ عبارات عامة بأنه ظلمكم بعد زواجه بامرأة ثانية، فما هو الظلم الذي قد وقع من والدكم عليكم؟
فلربما تطلب حقًّا ليس لك، فهل منعكم حقًّا هو لكم؟!
فحتى نناقش المشكلة يجب أن نعرف هل هي حقًّا مشكلة حقيقية؟
ومن أهمِّ ما يجب أن نبدأ به في حل المشكلة أن نسأل عن سببها، فما الذي جعل والدكم يتغير هذا التغير الكبير؟
فأرجو أن تفكر بهذا الأمر جيدا لتعرف المدخل الذي تدخل منه لإصلاح المشكلة.
ولكن على فرض أن والدك ظالم ومضيع لحقوقكم فدونك الفقرات التالية، تبين لك الموقف الشرعي والنصيحة الأخوية من إخوتك في موقع المسلم.
ثانيًا: ظلم الوالد لا يبرر للولد عقوقه.
الواجِبُ على الابن الإحسانُ إلى والديه، وبرهما وصحبتهما بالمعروف، وإن اجتهدا في دعوته للشرك فضلاً عن التقصير في حقوقه؛ فالله تعالى يقول: ﴿وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ لقمان: 15، فأمر فقط بعدم طاعتهما؛ لأن حق الله مُقَدَّمٌ على حق كل أحد، و(لَا طَاعَةَ لمخلوقٍ، في معصِيَةِ الخالِقِ)، وعلى الرغم من ذلك لم يقل سبحانه: وإن جاهَدَاكَ عَلَى أن تشرِكَ بي ما ليس لَكَ به علمٌ فَعُقَّهُمَا، أو ادْعُ عليهما، بل قال: ﴿فَلا تُطِعْهُمَا﴾؛ أي: بالشرك، وأما برهما، فاستمر عليه، ولهذا قال: ﴿وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا﴾؛ أي: صحبةَ إحسانٍ إليهما بالمعروف، وأما اتِّباعُهُمَا وهما بحالة الكفر والمعاصي، فلا تَتَّبِعْهُمَا، وتأمَّلْ أنه لم يرخِّص في تلك الحال الكبيرة في عقوقهما، ولا الإساءة إليهما، ولا شك أن الدعاء عليهما من أقبح ذلك العقوق.
فظلم الوالد وتقصيره لا يجيز لنا عقوقه، وسوف يحاسبه الله على تقصيره في القيام بواجباته الشرعية، وسوف يجازينا على برنا وإحساننا له وصبرنا عليه، ومن عظمة هذه الشريعة أنها تدعو إلى الإحسان إلى الوالدين ومصاحبتهما بالمعروف.
ولا شك أن ظلم الوالد لولده معصية لا يرضاها الله، وإذا أمر الوالد ولده بما فيه معصية لله فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، لكنه مع ذلك فالولد مطالب بحسن الصحبة معه، فلا يجوز أن يقابل السوء بمثله، وله أن ينجو بنفسه من الأذى، ولكن ليس له إيذاء الوالدين لأنهما سبب وجوده بعد الله.
وينبغي أن يعلم كل أب أن الله حرم الظلم على نفسه، وجعله محرماً بين عباده، وطاعة الابن لأبيه ليست مسوغاً للأب في ظلم ابنه، فكثير من الآباء – للأسف - يخلط بين حق الطاعة من الأبناء، وبين استمرائهم للظلم وإيقاع الأذى النفسي والمادي بهم، فالظلم حرام من الوالد والولد، ولكن الرد على هذا الظلم لا ينبغي أن يصل إلى الإساءة للوالد، أو انتقاص المكانة التي جعلها الله له، نعم يمكن أن يبين له أن هذا ظلم لا يجوز، ولكن لا نرد الظلم بمثله.
ثالثًا: الواجب عليك الدعاء للوالد بالهداية والصلاح لا الدعاء عليه.
فقد أمر الله - سبحانه - بالدعاء للوالدين: ﴿وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا﴾ الإسراء: 24, فكيفَ نترُكُ هَذَا الأمرَ القرآنيَّ الكريمَ بل ونعكِسُهُ بالدُّعاءِ عليهِمَا؟ وهل هَذَا إلا مضادةٌ لأمر اللهِ، ومناقَضَةٌ لشرعِهِ، ومُنافٍ لقول النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لمن سأله عما إذا كان بَقِيَ مِنْ بِرِّ أَبَوَيَّ شَيْءٌ أَبَرُّهُمَا بِهِ بَعْدَ مَوْتِهِمَا؟ قَالَ: (نَعَمْ، الصَّلَاةُ عَلَيْهِمَا، وَالِاسْتِغْفَارُ لَهُمَا، وَإِنْفَاذُ عَهْدِهِمَا مِنْ بَعْدِهِمَا، وَصِلَةُ الرَّحِمِ الَّتِي لَا تُوصَلُ إِلَّا بِهِمَا، وَإِكْرَامُ صَدِيقِهِمَا) رواه أبو داود عن أبي أسيد مالك بن ربيعة.
وقد نَهَى رسولُ اللهِ الآباءَ عَنِ الدُّعاءِ عَلَى الأولاد، فمن بابِ أَولى يكون الأبناءُ منهيين عن الدعاء على آبائهم؛ فعن جابر قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : (لَا تَدْعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ، وَلَا تَدْعُوا عَلَى أَوْلَادِكُمْ، وَلَا تَدْعُوا عَلَى أَمْوَالِكُمْ، لَا تُوَافِقُوا مِنَ اللهِ سَاعَةً يُسْأَلُ فِيهَا عَطَاءٌ، فَيَسْتَجِيبُ لَكُمْ) رواه مُسلِمٌ.
فالدعاءُ عَلَى الأبَوَيْنِ وإن كانا ظالِمَيْنِ من الجهر بالسوء، كما سبق من كلام ابن عباس؛ فيكون مِنَ العُقُوق، وهو من أكبر الكبائر، قال - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (أَلاَ أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الكَبَائِرِ؟) ثَلاَثًا، قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: (الإِشْرَاكُ بِاللهِ، وَعُقُوقُ الوَالِدَيْنِ...) متفقٌ عليهِ.
فَمَنِ ابْتُلِيَ بأَبَوَيْنِ ظَالِمَيْنِ، فَلْيُحْسِنْ صُحْبَتَهُمَا، وَيَجْتَهِدْ في نُصْحِهِمَا بالتَّخَلِّي عَنِ الظُّلْمِ، فَإِن قَبِلَا ذَلِكَ فَهَذَا حَسَنٌ، وَإِلَّا فَلْيَدْعُ لَهُمَا، ومما يعين على ذلك مجاهدة النفس في ذات الله تعالى، واحتساب الأجر عند الله تعالى.
أخيرًا: همسات تعينك على التعامل مع ظلم والدك.
• كثرة الدعاء: فاسأل الله عز وجل بصدق وإخلاص أن يصلح والدك وأن يرشده ويسدده، فالدعاء من أعظم أبواب الخير، وهو أعظم معين لك في إصلاح والدك.
• أن تتذكر عظيم فضله عليك، فكم من ليلة عانى لأجلك، وكم بذل وضحى حتى كبرت؟!، فإذا ما تذكرت هذا استطعت أن تتحمل ما تلاقيه من جفائه.
• ادفع بالتي هي أحسن، فلو عاملته بالإحسان فهذا من أعظم ما يرقق قلبه ويحسن صلته بكم، ولذا اجتهد في بذل المعروف إليه، وترقيق الكلام بين يديه، فإن إحسانك له سيلين قلبه، ويصلح حاله.
• استعن بأهل الخير لإصلاحه، فإن كان أحد من كبار أفراد العائلة أو صديق لوالدك أو إمام المسجد مثلًا له تأثير على والدك؛ فاذكر له معاناتك، واطلب منه أن يتدخل لإصلاح هذا الخلل.
• استغلَّ لحظات الأنس والصفاء لدى والدك؛ فإذا وجدته صافي البال مرتاح النفس؛ فخاطبه خطابًا لينًا تذكر فيه معاناتك وتناقش معه حلها.
نوَّر الله قلبك، وسدد خطاك، ورزقنا وإياك حسن الصلة بالله سبحانه وتعالى.