"أعتقد أن تغطية الناس لوجوههم يمكن أن يجعل العلاقة بين البشر من خلفيات مختلفة أمرا أكثر صعوبة (...) فالمسلمة الذي تلبس البرقع من الصعب عليها التقدم وهو يحول بينها وبين الاندماج في المجتمع البريطاني"
تلك هي مبررات وزير الخارجية البريطاني السابق جاك سترو، وزعيم مجلس العموم البريطاني تالياً، لـ"تفضيله" ألا ترتدي النساء المسلمات في بريطانيا أي نقاب على الإطلاق"، والتي صرح بها قبل ثماني سنوات، وأثارت جدلاً في بريطانيا حينها.
فكرة صعوبة العلاقة والتفاعل بين البشر ربما تجد رواجاً لدى البعض، لكن ماذا عن تلك المرأة المنتقبة التي طردت من قاعة الأوبرا في باريس، في شهر أكتوبر الماضي بعد أن رفض فريق المغنين مواصلة العرض بـ"حضور شخص مجهول الهوية" مثلما قالوا، هل كانت ستتفاعل مع الممثلين أو تكون علاقة اجتماعية معهم مثلما برر سترو من قبل؟!
أو ماذا عن ظاهرة منع المحجبات ممن لا تلبسن النقاب أصلاً في فرنسا، مثل مطعم مدينة مرسيليا أو بعض مطاعم شواطئ الريفيرا؟!
لا، وقبل أن تنزعج من رتابة ما أقول؛ فسأريحك مباشرة، ليست هذه السطور للدلالة على ازدواجية الغرب، ولا عن تعصبه ضد المسلمين، فتلك صارت بديهيات لا تستدعي جهداً في بسط الأدلة المادية عليها.. سنعود إلى قصتي سترو والمسرح لاحقاً، لكن بعد جملة من الأمثلة الدالة ليس على ما تقدم، وإنما على أن مسألة النقاب في العالم قد غدت قضية صاعدة، وأن التعامل معها بات يؤشر على تغير ما قادم، بل ربما يحق القول إنه صار قائداً إلى ثورة في الاتجاه المقابل الذي صار عليه الغرب، ليس لقرون بل لعقود قليلة فقط.
لنضع تلك الأخبار القصيرة التي وقعت خلال الأسابيع القليلة الماضية جوار بعضها أولاً:
- تخلي البرلمان الأسترالي عن مشروع قانون أثار جدلاً واسعًا يتضمن اقتراحًا بوضع المسلمات المنقبات في قاعات منفصلة عند زيارة عامة الناس لمبنى البرلمان، ووفقاً لديلي تليجراف البريطانية فإن مشروع القانون الذي تم اقتراحه في وقت سابق من الشهر الجاري ينص على إلزام النساء اللواتي يرتدين النقاب أو البرقع أو أي خمار يغطي الوجه الجلوس في غرف ذات جدران زجاجية مخصصة عادة للتلاميذ الصاخبين خلال زيارة البرلمان، علماً بأن أي منقبة لم تزر البرلمان أصلاً حتى الآن.
- توجيه تهم جريمة كراهية وعنصرية لجوناثان ديويل واثنين آخرين بعد اعتدائهم على مبتعثة سعودية تبلغ من العمر 26 عاماً وابنتها 5 أعوام في يوم 19 يوليو الماضي أمام مركز ميريديان التجاري بولاية أمريكية، ووفقاً لصحيفة "ديلي نيوز" ويتشابه ذلك مع حادثة قتل المبتعثة السعودية ناهد المنيع في بريطانيا في واحدة من جرائم الكراهية ضد المنتقبات.
- أثارت نادين مورانو، وهي برلمانية أوروبية عن حزب الاتحاد من أجل حركة شعبية ووزيرة سابقة ، ضجة في محطة قطارات الشرق بباريس، بعدما هاجمت امرأة مسلمة منتقبة كانت داخل المحطة وطلبت منها أن تخلع نقابها فورا كونه يخالف القانون الفرنسي.
- ضمن دعايته للعودة للحكم في فرنسا عبر حزبه، ساركوزي يدعو المنتقبات إلى ترك الدين في المنزل.
- حظرت سلطات الاحتلال الصينية في مدينة كاراماي بكردستان الشرقية المحتلة ركوب الملتحين والمحجبات الحافلات العمومية، بحسب ما ذكرته صحيفة كاراماي ديلي، وستتولى الشرطة التعامل مع من يرفضون التعاون مع فرق التفتيش.
- أثار ترشح منتقبتين للبرلمان التونسي رد فعل سلبي واسع النطاق من قبل متطرفات في مجال منظمات نسوية تونسية معتبرة "أن ما حصل يعد بمثابة سابقة خطيرة تهدد ما تحق من مكاسب تقدمية للمرأة التونسية، خاصة ما تضمنته مجلة الأحوال الشخصية والأسرة، التي دعت منذ أكثر من نصف قرن إلى تحرير المرأة، وتخليصها من تقاليد رجعية كانت تعوقها عن أداء دورها في المجتمع"، وفقا للصحف التونسية، رغم عدم منع القانون ذلك.
- وزير التعليم العالي المصري: "المنتقبات والحرائر" هم من افتعلوا العنف داخل الجامعات.. ومحكمة مصرية تلغي قرار منع المنقبات من العمل.
- القضاء النيجيري يمنع ارتداء النقاب.
النقاب إذن صار شاغلاً للغرب والشرق، الجنوب والشمال، سواء عند منعه أو عند السماح به؛ فالمسألة لم تعد "قطعة قماش" يمكن التسامح معها ضمن بديهيات الحرية الشخصية؛ فالاتهام الموجه لمن تتمسك بالنقاب صار منقلباً على مانعيه، إذ أصبحت "قطعة القماش" على بساطتها معولاً هادماً لقيمة بنى عليها الغرب ما أسماه بحضارته.
دعونا من الشرق والجنوب، فكلاهما لا يعد نموذجاً يمكن دراسته لاحترام حقوق الإنسان والحريات العامة، لكن الغرب يقدم نفسه بهذه الصفة، ويجعلها عنواناً لـ"حضارته" المادية.
ما يمكن تدوينه هنا استناداً إلى ما تقدم أن الغرب الذي ابتدر الكرة الأرضية بفكرته عن العلمانية واحترام الحريات وتقديمه نموذجاً قيمياً لاحترام حقوق الإنسان بدأ يعاكس ذلك تماماً على نحو متنامٍ ينم عن أن الغرب يقف على جرف هار من قيمه، وهنا لا نأخذ النقاب إلا أحد المؤشرات، لا لكونه هو الإسلام ذاته، وليس قفزاً على أي رأي فقهي حوله، بل هو كغيره من ألوان الاضطهاد الأخرى التي سنشير لها لاحقاً بسرعة.
مجرد الأمثلة سالفة الذكر ليست إلا أخباراً مبعثرة لتنشيط الذاكرة ليس إلا، وإلا؛ فإننا لو أردنا التعميم؛ فلدينا هذه الحقائق الدامغات؛ فأوائل يوليو الماضي أيدت المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان القانون الفرنسي حظر النقاب، حيث أوضحت في حيثيات حكمها الصادر أن "القرار لا يتناقض مع معاهدة الحقوق الأوروبية"، وهي خطوة تفسح المجال واسعاً ليس أمام فرنسا فقط لتواصل نهجها المتشدد حيال النقاب، بل لتقلدها باقي الدول الأوروبية دون أن تشعر بأي وخز ضمير حيال انتهاك الحريات الشخصية؛ فالمحكمة الأوروبية قد "أفتت" بأن "القانون الفرنسي لا يخالف حرية المعتقد والتعبير"!
وإذا كان لا يخالفهما؛ فما المانع في أن تحاكي دول إيطاليا وإسبانيا وهولندا والنمسا وسويسرا، الدولتين الحاظرتين للنقاب في أوروبا إجمالاً، وهما فرنسا وبلجيكا، وهي دول تبقي هذا الإجراء في حيز الدراسة قيد التطبيق، مثلما فعلت بالفعل في مدن إسبانية وإيطالية تمنع النقاب الآن.
وما المانع في أن تعيد ألمانيا التفكير في هذا، خضوعاً لآراء اليمينيين وهم كتلة برلمانية وسياسية واجتماعية في الجملة مؤثرة، وهم يطالبون بحظره.. وأي ضمير إنساني أو احترام لحريات الفتيات والسيدات الشخصية يؤرق واضعي القوانين ما دامت فرنسا ذاتها "لم يوقظها"، اسم أوبرا "الباستيل" التي أمرت فيها السلطات امرأة منتقبة بأن تهين كرامتها وتخلع جزء من ملابسها أمام الجمهور العريض في القاعة، وإلا تعرضت لإهانة أخرى بالطرد لمجرد أن "المبدعين الأحرار الجدد" يأنفون من مظهرها ويطلبون تطبيق قانون لا يبعد كثيراً عن جوهر فكرة "الباستيل" الذي ظن الفرنسيون أنهم حطموه قبل قرون؛ فإذا هو ساكن في أعماق كينونتهم الشيفونية، والتي هيجت وزارة "الثقافة" (قلعة الحريات والإبداع!) لأن تعيد التذكير بقانون حظر ارتداء المرأة ما تريد!
لنأخذ الطريق من أوله: مع بدء تراجع المسلمين عن قيادة العالم، أول مرة مع سقوط دولة الأندلس قبل خمسمائة عام كان الغرب غير جاهز لادعاء تمسكه بـ"قيم حضارية" فارتكب بحق المسلمين فظائع "محاكم التفتيش" وغيرها، التي كانت تحاسب المرء على ملابسه، لكن حينما شرع في وراثة الخلافة العثمانية أوائل القرن الماضي حرص على تقديم نموذج "حضاري" للتعامل مع "مواطني" دوله، ولو كانوا من المسلمين.. أخفق كثيراً في محاولاته تزييف واقع عن احترامه لحقوق الإنسان إلى أن أنضج مشروعه القيمي خلال النصف الثاني من القرن الماضي.
حين ظن أنه قد اكتمل في "ليبراليته" و"تسامحه الديني والمذهبي"، فاجأته الزيادة المضطردة في أعداد المسلمين مستغلة أجواء الانفتاح النسبي في بلاده.. بدأت هذه الزيادة تشكل له تحدياً؛ فقد كان زيفه وتزويره القيمي يسمح بتسامح ما مع أقليات لا يمكن أن تمثل تهديداً لديه، لا في قوتها، ولا في قيمها، لكن حين صارت "أقلياته" بالملايين استبد به الخوف، فبدأ بالاستدارة والعودة إلى الطريق المقابل الذي ينتهي إلى محاكم التفتيش مرة أخرى! حتى لكأنه رآها أكبر من حجمها من فرط قوة تأثيرها المعنوي على ذاتها ومحيطها؛ فأصبح يقارن بين مرتادي المساجد والكنائس فيتصور أن المسلمين قد صاروا نسبة غير التي يمثلون حقيقة، إلى الحد الذي جعله يتوهم كثيراً غير الحقيقة؛ فقد نشرت صحيفة "جارديان" البريطانية، استطلاعا أجراه معهد "Ipsos Mori"، يعزز هذا الاستنتاج عن تهويل البريطانيين والأمريكيين في تقديراتهم لعدد المسلمين في بلادهم، فيعتقدون في بريطانيا إن نسبتهم تبلغ 21% بينما هي 5% فقط في الحقيقة، وفي أمريكا اعتقد كثيرون إن نسبة المسلمين 15%، لكنها في الواقع 1% فقط، (كما يقول الاستطلاع غير أن الحقيقة أنها تتراوح ما بين 2 :3%)
بالعودة إلى قصتي سترو البريطاني والمسرح الفرنسي، ما يلحظ ليس فقط فيها فارقاً بين الليبرالية البريطانية ونظيرتها الفرنسية الأقل انفتاحاً وحرية، ولا أن هذه تسبق تلك بثماني سنوات فحسب، وإنما الفرق الجوهري بينهما في تعداد المسلمين في كلا الدولتين؛ ففرنسا التي يكاد يلامس عدد المسلمين فيها ثمانية ملايين، تختلف عن بريطانيا التي تتراوح أعداد مسلميها ما بين اثنين إلى ثلاثة مليون مسلم.. الأولى تراهم تحدياً آنياً حقيقياً، والثانية تتحسب لهم مستقبلاً.
كلاهما متخوف وإن اختلفت درجتاهما، فالأولى تقفز فيها أعداد المسلمين كل يوم من المواطنين (الجيل الثاني والثالث من المهاجرين)، بحيث بدأت تمثل رقماً انتخابياً لا يستهان به، وفي الثانية يمثل المسلمون ثقلاً في العاصمة لندن، ويشكلون "تحدياً ثقافياً" لبريطانيا.
ما يستشف عند تتبع أخبار النقاب في العالم الغربي هذه الأوقات أنه يكشف عن توجه قادم حثيثاً لا يرحب بالإسلام والمسلمين، ويستعد للتخلي عن "قيمة غربية" سمحت له بالوجود وسط الغربيات اللائي يمارسن قدراً لا محدوداً من الاختيار في ارتداء ملابسهن.
يظن الغرب حال رفضه المتصاعد للنقاب وغيره من "المظاهر" الإسلامية أنه يكسب أرضاً في سبيل تحييده للإسلام الصاعد لديه، إنه حالئذ لا يدري أنه يفقد "قيمه" التي أسس عليها "حضارته" شيئاً فشيئاً.. يقولون المسلمون يقيدون ملابس المرأة باسم الإسلام، وهم كذلك يفعلون باسم الليبرالية؛ فما الذي يحملونه للبشرية ظناً منهم أنهم يضعونها على الجادة؟!
نحن لا نبالغ؛ فمسألة النقاب على خصوصيتها وتفرعها إذا ما وضعت في سياقها الأوسع الآخذ في الانحدار، من تمييز وتهميش وإجراءات (كنماذج: الصلاة، الهجرة غير الشرعية، المآذن والمساجد، "التسامح" الأمني مع الحركات اليمينية المتعصبة المناوئة للوجود الإسلامي، وهجمات على المراكز الإسلامية والقبور...الخ)، لوجدناها أحد تعبيرات هذا الاضطهاد الذي يتوجب إن لم ندرسه كله ألا نغفل عن بعض ملامحه كالنقاب والسمات الظاهرة للمسلم والمسلمة.
علينا أخيراً أن نذكر أن كثيراً من هوامش الحرية التي أتيحت للأقليات "اقتبسها" الغرب من الدولة العثمانية التي رسخت قيماً دولية، أراد الغرب أن يتميز بالبناء عليها (مع أخطائه الجمة في هذا الصدد)، غير أن العقيدة المتعصبة لديه لم تمهله طويلاً حتى قفل راجعاً! ويبدو أنه بتراجع دور المسلمين في العالم؛ فإن الغرب لم يعد يرى النور الذي حاول آنفاً أن يؤلف بينه وبين خرافاته وأفكاره المادية؛ فأوكل إلى خرافاته وحدها فعاد إلى التراجع مجدداً ليمضي حثيثاً إلى حقبة محاكم التفتيش.. وإن بدا في بدايات الطريق.
لنعاود تأمل العنوان مجدداً.. نستطيع الآن أن نضيف إليه كلمة:
النقاب كتعبير عن قيمة غربية.. مفتقدة!