12 رمضان 1436

السؤال

السلام عليكم ورحمة الله
أنا فتاة في العشرينيات من عمري، أعاني منذ سن العاشرة من سيطرة أحلام اليقظة عليَّ وانغماسي فيها كلية وخاصة أحلام اليقظة المتعلقة بالعلاقة بين الزوجين، وبسببها أعاني من الشرود الذهني ويكثر النسيان عندي حتى إني أجد نفسي أجهل البديهيات في دراستي وفي حياتي، تأخر مستواي الدراسي كثيراً، أحتاج لنصائحكم للخروج من هذه الأزمة..
وشكراً لكم.

أجاب عنها:
يحيى البوليني

الجواب

بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه وسلم.
نشكر لك أختنا الكريمة ثقتك بإخوانك في موقع المسلم ونسال الله سبحانه أن يوفقك لما يحبه ويرضاه، وان يرينا ويريك الحق حقا ويرزقنا اتباعه وان يهدينا إلى أحسن الأقوال والأعمال التي تقربنا إليه التي لا يهدي لأحسنها إلا هو وان يصرف عنا سيئها فلا يصرفها إلا هو سبحانه.
وفي بداية هذا الرد اختننا يجب أن نتحدث عن أحلام اليقظة بشكل عام قبل أن نتحدث عن أحلام اليقظة الخاصة محل سؤالك.
فما من إنسان في الغالب إلا ومر على هذه الأحلام في يقظته، وليس فيها غضاضة بل هي – في أحوالها الايجابية إن أحسن استغلالها – أمر محمود ولاشك، فحقائق اليوم من استكشافات واختراعات لم تكن إلا أحلام يقظة بالأمس عند أصحابها، وأحلام يقظة اليوم عند الجادين هي حقائق الغد، ويستطيع الإنسان السوي أن يسخر أحلام يقظته لما ينفعه في دينه ودنياه، فما أحلام اليقظة إلا رحلة عقلية تعبر عن الطموح والرغبة فيما لا يملك الإنسان اليوم أو فيما لم يحقق، ليعود بعدها لواقعه محاولا الوصول إلى ما يصبو إليه في أحلام يقظته، وهو ما يمكن التعبير عنه بالتوق أو التطلع أو الرغبة في بلوغ الهدف، فكان عمر ابن عبد العزيز رحمه الله يقول: "إن لي نفساً تواقة، تاقت إلى فاطمة بنت عبد الملك فتزوجتها، وتاقت إلى الإمارة فوليتها، وتاقت إلى الخلافة فأدركتها، وقد تاقت إلى الجنة فأرجو أن أدركها إن شاء الله عز وجل ".
وتمثل أحلام اليقظة السلبية في علم النفس الحديث احد ميكانزمات الدفاع النفسي أو ما يسمي الحيل الدفاعية والتي تعتبر إحدى وسائل الهروب من الواقع ، فكلما لا يستطيع الإنسان أن يتفاعل مع واقعه أو كلما تكثر المشكلات والهموم عليه يحاول العقل أن يبحر في اتجاه آخر أكثر راحة وأعذب توجها ليحقق له - ولو بالوهم - ما لم يستطع إيجاده في الحياة الواقعية، وغالبا ما يعود أغلب الناس منها بسرعة إلى واقعهم، ولكن المشكلة تكمن في الاستغراق فيها والاعتياد على الحياة بداخلها حتى يبتعد فيها الإنسان بصورة كبيرة عن واقعه، وهي في الأصل وهم غير حقيقي، فربما ينعزل عن مجتمعه، وربما تستهلك طاقته العقلية فيه فيصعب عليه ما كان سهلا يسيرا في حياته، وربما يتخلف عن أقرانه أو يشعر بعدم قدرته على ممارسة الحياة بشكل طبيعي، وفي بعض الأحيان يشعر الإنسان بأن به مسا من جنون نتيجة عدم استطاعته إدراك البديهيات العقلية.
وغالبا لدى الشباب في فترة مقتبل العمر والتي اصطلح عليها العلم النفسي بفترة المراهقة ما تنحصر أحلام اليقظة في إشباع الرغبة الجنسية، حيث تكثر المؤثرات الخارجية جدا التي تدفع للتفكير في هذا الاتجاه، وحيث ارتفع سن الزواج عند مختلف الدول العربية والإسلامية، حيث تعسر الزواج وازدادت نفقاته غلوا وشدة، وزادت نسب البطالة بين الشباب وبالتالي العنوسة، فمن الطبيعي أن أحلام اليقظة في هذا الاتجاه تكثر وتزداد.
والأخطر أن تصاحب أحلام اليقظة أفعال محرمة يظن فيها الشاب أو الشابة أنها نوع من التفريغ للرغبة وأنها نوع من المسكنات التي تهدئ من ضغط الشهوة على الإنسان، ولكنها في الحقيقة نوع من الاستجارة من الرمضاء بالنار، فتصبح تلك العادات المرذولة المحرمة هي الأصل لا الفرع، وتصبح الحاجة إليها نتيجة الاعتياد الدافع إلى أحلام اليقظة بعد أن كانت نتيجة لها، وهنا يصبح التخلص من أحلام اليقظة أصعب بكثير من ذي قبل.
ويختلف الباحثون النفسيون في حالة من ينغمس انغماسا كليا في أحلام اليقظة هل هو مريض نفسي يحتاج للعلاج أم هي حالة طارئة يمكن أن يتخلص الإنسان منها بنفسه، ولكن اغلب الأطروحات فيها تنظر إليها على أنها علة طارئة يسهل أن يخرج كل إنسان منها بنفسه دون الحاجة لطبيب نفسي، وخاصة ان السائلة هنا لم تتعد سن "المراهقة" إلا بقليل ويمكنها السيطرة على هذه الأحلام والتخلص من سلبياتها، مع ترشيد أحلام اليقظة وتسخيرها على المستوى العام لما ينفع الإنسان.
وأحلام اليقظة في الموضوع الجنسي وغيره تنتج من عدة أمور وأسباب منها وجود مشكلات واقعية في الحياة يهرب منها الإنسان فينبغي مواجهة المشكلات بواقعية ومحاولة إيجاد حلول لها، كما تنتج من عدم وجود أصدقاء أو مقربين من أهل الخير والصلاح يجد فيهم الإنسان مستودعا لسره فيلجأ إلى نفسه فينفرد بها فترات طويلة محاولا إيجاد حلول لما يواجهه بمفرده فيتصرف بشكل غير عقلاني في حل المشكلات، ومنها وجود فراغ كبير في الوقت والذهن فلا ينشغل الإنسان بما ينفعه فما لم يُملأ بحق مُلئ بالباطل.
وللأخت الكريمة ولكل من يعاني من مثل مشكلتها من الشبان والشابات عدد من النصائح التي أجملها فيما يلي:
- يجب أن نتيقن جميعنا انه لا توجد حياة بلا مشكلات، فاغني الأغنياء من أهل الأرض يعاني مشكلات مثله مثل أكثر الفقراء فقرا، لكنها مشكلات تختلف في صورتها وطبيعتها وشدتها، ولا توجد راحة كاملة خالية من الكدر في الأرض لأي أحد، والراحة الحقيقية هي عند الله سبحانه وفي القرب منه تبارك وتعالى، "لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ "، ولهذا فالكل يعاني، والكل يجب عليه أن يبحث عن حلول لمشاكله، فحاولي مواجهة مشكلاتك ولا تهربي منها بوهم زائف، فمواجهة المشكلة حتى لو لم تتمكني من حلها ستعيدك إلى الحياة الواقعية، أما هروبك ومحاولتك إيجاد لذة وقتية تخرجك من دائرة الحياة الواقعية ستزيدك إحباطا وألما ومعاناة، وستدخلك دوائر أخرى أكثر ألما وبالتالي يزداد هروبك وانسحابك من الحياة، فواجهي مشكلاتك الحياتية باستعانة بالله وصبر على حلها وبإذن الله تجدين فتحا من ربك لك.
- حاولي تغيير مسار أحلام اليقظة لتسيطري عليها لا أن تستسلمي لها فتسيطر عليك، فأنت كما قلت طالبة، سخريها لتري نفسك فيها في يوم النتيجة وأنت تحملين نتيجتك التي تسعد من حولك، وأنت تقومين بكل عمل نافع لك ولغيرك، فضعيها في أهداف وأحلام وطموحات يمكن تحقيقها بالسعي والعمل، فتكون دافعة لك للإنجاز، فمحاولة تغيير مسارها في البداية ستكون صعبة ولا شك ولكن بصبرك عليها يمكنك النجاح فيها بإذن الله، واعلمي انك كلما سيطرت على تلك الأحلام المزعجة كلما عدت إلى الحياة الواقعية شيئا فشيئا وتخلصت منها ومن ويلاتها عليك.
- كفكرة عامة، إذا كان لديك متسع من الوقت – وهو موجود لديك الآن ولا شك – فحاولي إشغال نفسك في عمل تطوعي أو خيري، فليس شرطا أن يعمل الإنسان في عمل خيري بماله فقط، فمن الممكن الاشتراك في هذه الأعمال التي تشعر الإنسان بالحياة الواقعية وتبعده شيئا فشيئا عن الحياة الوهمية، والتي تجعل منه عضوا نافعا يشعر بقيمته في الحياة وتشعره بالإنجاز والنجاح فيه، فما الفراغ إلا العدو الأصعب للنفس البشرية حيث يأتي ويحمل معه كل شر، فلا تنفردي بنفسك كثيرا وحاولي إشغال وقتك بكل سبيل حتى لا تتركي نفسك فريسة لأحلام اليقظة.
- ابتعدي بقدر المستطاع وبصورة حاسمة عن المثيرات التي تثير هذه المشاعر داخلك، فأحلام اليقظة الجنسية تزداد باضطراد إذا تعرضت لمؤثرات خارجية وتقل بالعكس، فتأثير العين والأذن في هذه الموضوعات دافع كبير لبداية أحلام اليقظة ومن ثم إلى إطفاء هذه النار التي تستعر في النفوس، وكلما اتقى العبد ربه سبحانه وابتعد عن المؤثرات كلما قلت أحلام اليقظة لديه في هذا الجانب.
- تقربي من أهلك وبخاصة والدتك – أن كانت على قيد الحياة – أو ممن تثقين فيها، وابحثي عن رفقة صالحة تعينك على الخير، تذكرك إذا نسيت، دون أن يشترط أن تصارحيهن بما لديك، فمجرد وجود مجتمع صالح وبيئة صالحة تتغير كثيرا من سلوكيات الإنسان، وفي المقابل ابتعدي عن كل رفقة سيئة فهي التي تزرع الشر وتنبته في النفوس دون أن يدري الإنسان، فقد قال نبينا صلى الله عليه وسلم "الْمَرْءُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِلْ"[1].
- وقبل كل هذا وأثناءه وبعده استعيني بالله والزمي ذكره وأكثري من الصلاة وحاولي أن تبقي أطول وقت وأنت على وضوء وأكثري من الصوم فهو لك وجاء كما قال المصطفى صلى الله عليه وسلم، وتذكري قول ربنا سبحانه (اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ)، فكما جاء في الآية الكريمة أن الصلاة تبعد الإنسان عن الفحشاء وعن المنكر، وتقربه من طاعة ربه، وتحببه إليه سبحانه، وأيضًا تطمئن قلبه من كل خوف أو فزع أو هم أو ضيق ولهذا كان صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة، وعن أثر الذكر على القلوب قال ربنا " الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ".
وفقك الله وحفظك اختنا الكريمة واسأل الله أن يصرفنا ويصرفك عن السوء وان يصرفه عنا وعنك، كما أسأله أن يحبب إلينا واليك الإيمان ويزينه في قلوبنا وأن يكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان وأن يجعلنا من الراشدين.
_____________________
[1] رَوَاهُ أَحْمَدُ والتِّرْمِذِيُّ وأَبُو دَاوُدَ وصححه الألباني