ما الذي يدعو أحدنا إلى أن يقرأ لـ"نخبوي" تغريبي، ظل طيلة حياته يعيب علينا تحليلنا العقدي للأحداث السياسية الكبرى، ويصم كل مخالف يقلب الأمور من زواياها المختلفة بالتطرف في التحليل، والطائفية في الرؤية؟!
ما الذي يدعونا للاستمرار في القراءة لـ"غرانيق التغريب"، و"أقانيمه" المدعاة، وهم أوردوا شعوب المنطقة كل مهلكة بتحليلاتهم السياسية العرجاء؟!
كانوا إذا ما بحثنا عن عقيدة هذا، ودين أو مذهب ذاك، لفهم أغواره وكيف يفكر، قالوا: "لا تفتش في العقائد بل ابحث عن المواقف"؛ فإذا كثير من المواقف مرتبطة جذرياً بالعقائد..
لست أدري، علام عُد هؤلاء مفكرين ومنظرين وكتاباً ومحللين وخبراء، وهم متجردون من ملكة التقويم الحقيقية، أعني النظر من نوافذ العقيدة والتاريخ والاستراتيجيات المتراكمة والرصد المعرفي الدقيق، إلى مجمل الحاضر، استشرافاً للمستقبل.
كان علينا جميعاً أن نراجع حصاد هؤلاء، الذين إن قلنا احذروا فالفرس عائدون بحبل من الناس، ورضا من الكيان الصهيوني، والروم الجدد، وأنهم سيطوقون المنطقة، وسيضعون بلدان الخليج العربي كله في مأزق خطير، ويهددوا كل المضائق العربية، ولن تردعهم أو تكبح شهيتهم الاتفاقات الهزيلة، ولا الضغوط الغربية الوهمية.. قالوا: "لا تبالغوا، نحن أدرى بالسياسة منكم؛ فلا تنظروا للعالم من ثقب إبرة التاريخ والطائفية".
أما، وقد وقع ما كان يحذر منه المخلصون، وباتت إيران على بعد رمية رمح من معظم حدود الجزيرة العربية؛ فهل بقيت لغافل من حاجة للقراءة أو الاستماع لهؤلاء وقد ضللوهم عياناً؟!
"غرانيق التغريب" لم يوفروا مبرراً واحداً لتصديقهم حتى لحظتنا هذه التي نحياها؛ فإما أنهم جهلة مغيبون، ضالون في تحليلهم واستشرافهم لغدنا.. أو أنهم ضالعون في مخطط التغييب المحكم؛ فليختاروا بأنفسهم ما يلائمهم من مصيبة.. علم الخيانة، أم جهل الحماقة.
في الحالين، ليس أحدهم غرنيقاً بل بعوضاً يحوم فوق برك الهزيمة ومستنقعاتها، ولا يحق له، كخائن أو جاهل، أن يحلق كالغرانيق في المعالي، وعليه أن يواجه حقيقة التضليل، ويراجع تاريخه الطويل في التنظير والتفيهق، حول "الصراع المحتدم" بين إيران والغرب، منذ بدأ الغرب يوهم الجميع بأنه "يحاصر إيران" ويفرض عليها العقوبات.. ومنذ أن أعلنت طهران أنها رأس الحربة ضد "الشيطان الأكبر"!
عليه أن يكف لسانه وقلمه الآن، وهو ما زال يحلل ويتفذلك حول الطرق الدبلوماسية التي سيتم بها منع إيران من إنتاج القنبلة النووية بعد امتلاكها فعلاً، أو الضغوط التي يمارسها الغرب عليها لمنع تحويل برنامجها الذي دشنوه بأنفسهم إلى المجال العسكري. ويصمت عن مواصلة التضليل حول وهم عداء الغرب لإيران .
لقد بح صوت المخلصين منذ عقود، يقرعون الآذان، يحذرون من مغبة ترك إيران تتمدد هكذا في محيطها، وتسلم لها البلدان تباعاً؛ فاتهموا بالطائفية وبأنهم مسكونون بالماضوية واستنساخ التاريخ، والتطرف الديني المفضي إلى النظر إلى المستقبل الفسيح من ثقب إبرة الماضي السحيق!
يحاضر أحدهم قبل أكثر من اثني عشر عاماً فيلفت في محاضرة بعنوان "غلبت الروم" إلى "قوة العلاقة بين الرافضة وأمريكا"، لافتاً إلى "أننا منذ سنوات ونحن نقول هذا الكلام"، ويحذر آخر في محاضرة بعنوان "ويل للعرب من شر قد اقترب"، وثالث ينبه منذ نحو ثلاثين عاماً إلى "دور المجوس" الذي قد حان، لتلعبه في المنطقة بمساندة صهيوأمريكية، ورابع ينص صراحة في دراسته القيمة، وعد كسينجر على استنتاجه وفقاً لمعطيات عقدية وتاريخية، وإدراكه "خطرا كبيرا يهدد المنطقة في حالة تدمير العراق وإحلال التحالف الشيعي محله (إيران،سوريا،العراق الذي سيصبح دولة شيعية بعد فصل الأكراد، ثم بقية المناطق الخليجية كالبحرين والإمارات وشرق السعودية والوجود الشيعي واضح فيها ، ولا ننسى أن نذكر أن كثيرا من الناطقين بالعربية في جنوب تركيا من النصيرية أيضا أما باكستان فكثير من قادة جيشها الكبار شيعة ومعهم إخوانهم القاديانية والبريلوية) إنها مصيبة عظمى لو أصبح هذا القوس الكبير قوسا رافضيا يهوديا توجهه الصليبية الغربية المتحالفة (...) إن الرافضة هم أولياء اليهود والنصارى في قديم الدهر وحديثه ، ولا أظن الغربيين إلا قد أدركوا الفرق بينهم وبين أهل السنة جيدا وأخشى - لا قدر الله - أن نصحو على امبراطورية مجوسية تمتد من الهند إلى مصر !".
لقد وصمت كل هذه التحذيرات ونظائرها بالمئات بالطائفية، وفرضت عليها عتمة إعلامية مقصودة من أطراف تربطهم علاقات وثيقة جداً بحلفاء طهران الأوثق اليوم في المنطقة.. الولايات المتحدة، تلك التي يلتقي وزير خارجيتها كيري، نظيره الإيراني ظريف، أكثر مما يقابل فيها الوزير الأمريكي أبناءه وزوجته في واشنطن!
أضلت "الغرانيق المتغربة"، جماهير أمتنا، بقصد خبيث، أو بحمق رخيص، بل أضلت المتنفذين حتى اقتربت النار المجوسية من منازلهم، وحين أبرق الخطر غدوا يتصدرون محذرين بعد أن أضحت الفاتورة باهظة جداً وقد كان يمكن دفع ما هو أقل منها بكثير من قبل لو استمع لأصوات المخلصين، و"الغرانيق" حين فعلوا، غلفوا تحذيراتهم بتهويمات جديدة تزيد أمتنا غموضاً، وجبنوا عن تقديم النصيحة الحقيقية الخالصة، وهي بلا مواربة إقامة حلف سني حقيقي.. وحيث يقال هذا المصطلح أو يتحدث المخلصون عن مشروع سني؛ فهم يعنون بكل صراحة أن يكون مشروعاً إسلامياً سنياً، فالعلمانية فضلاً عن تهافتها وزيغها لا تستقيم واقفة أمام مشروع صفوي ديني بالأساس، سواء أكان إمامياً تلتئم معه كل طائفة قريبة كالنصيرية والإسماعيلية وغيرها، أم كان مجوسياً ساسانياً مثلما "بشر" علي يونسي مؤخراً.. دون هذا، كله عبث ودوران في حلقات سياسية مفرغة.