هي ليست معركة كاملة بين "الكمة" و"القبعة"، لكن مع هذا يبدو عسيراً إسقاط العامل الأهم في هذه الانتخابات النيجيرية التي جاءت بالجنرال "المسلم" محمد بخاري إلى مقعد الرئاسة النيجيرية باكتساح، متفوقاً على منافسه، الرئيس الحالي جودلاك جوناثان، بنسبة تزيد عن 10% من مجموع الناخبين، حيث حصل بخاري على 15,4 مليون صوت مقابل 13,3 مليون لجوناثان، بنسبة تبلغ 55% من إجمالي أصوات الناخبين، في مقابل 45% لمنافسه "المسيحي".
خاض الجنرال المعركة، يدعمه شعور كبير بالمرارة لدى المسلمين الذين خدعوا في اتفاق مسبق بين القوى السياسية يقضي بتبادل "مسلم" و"مسيحي" على مقعد الرئاسة؛ فشغله " أوليسون اوباسانجو" لفترتين ثم سلمه لمسلم مريض يوشك على الموت، هو عمر يارودا، الذي وافته المنية بعد عامين فقط من المرض الشديد، حيث تمتع نائبه جودلاك جوناثان بمعظم الصلاحيات الرئاسية، ثم أدار ظهره للاتفاق بعد وفاة يارودا، فحكم لعامين قبل الانتخابات، ثم رشح نفسه للرئاسة، واستولى على الحكم بعد انتخابات مشكوك بنزاهتها في العام 2011 وآل به الأمر أن حكم "مسيحيو" نيجيريا 16 عاماً كاملة يتخللها حكم يارودا الشكلي لعامين فقط منها!
بيد أن هذه المرارة لا تعبر عن كافة عوامل النجاح الانتخابي لبخاري؛ فالمعروف أن الجنرالات حكموا نيجيريا التي شهدت ستة انقلابات عسكرية، شارك بواحد منها، وجاء آخر ببخاري نفسه إلى السلطة عام 1984، حيث لم يمهله انقلاب آخر بعد عام ونصف أن يستمر في السلطة فغادرها إلى إقامة قسرية ظل فيها لمدة طويلة.. لكن حينما تهيأ للعودة، كان عليه أن يتحالف مع بعض الجنرالات المنشقين عن حزب "الشعب الديمقراطي" الحاكم، ليمثل وجوده في السلطة استبقاء لعلاقة ملتبسة مزمنة بين الجيش والسلطة، وهي العلاقة التي غذتها القوى الخارجية دوماً.
لكن مهما كان هذا، ومهما ساور البعض من شكوك حول تصريح بخاري بعد نجاحه قال فيه: "أشكر الرئيس أوباما على التدخل في الوقت المناسب من أجل انتخابات سلمية ذات مصداقية في نيجيريا"، بما يلقي بظلال على هذا "التدخل" من أوباما، ومهما قيل عن أن أحد أهم العوامل التي أطاحت بجوناثان، وهو التراجع الاقتصادي، لاسيما مع انهيار أسعار النفط العالمية، التي تمثل نحو 40% من الناتج المحلي النيجيري، وتراجع "النيرة" النيجيرية بمقدار الربع تقريباً أمام الدولار تبعاً لهذا، ومهما يقال عن أن أحد أسباب اختيار النيجيريين لبخاري بهذه النسبة الكبيرة، هو معرفتهم بتاريخه ـ الشائع عنه على الأقل ـ كأحد "أنظف" الجنرالات يداً، وأكثر بعداً عن مواطن الشبهات هو وعائلته، ورغبة الناخب النيجيري في مكافحة الفساد الذي جعل بلدهم الذي يعتبر ثامن أكبر مصدري النفط في العالم، ويملك سابع أكبر احتياطي من الغاز في العالم، ويمد السوق المحلية بمقدار خمسة مليارات قدم مكعبة يومياً من الغاز.. فقيراً جداً، حيث يقل متوسط دخل الفرد في البلاد عن دولار يومياً!.. مهما يكن من كل هذا؛ فإن أكبر عامل دفع ببخاري إلى سدة الحكم في نيجيريا كأول رئيس منتخب لنيجيريا في انتخابات لم يعترض عليها أي طرف، وهنأ فيها المهزوم المنتصر، مقراً بهزيمته، وبنزاهة الانتخابات، هو الإسلام؛ فالانتخابات هذه المرة لديها مزية لم تكن موجودة من قبل، وهي أنها خضعت لأكبر قدر متاح أو حاصل في هذا البلد الكبير لانتخابات نزيهة، بما جعل التمثيل النسبي للديانات يبدو جلياً هذه المرة، فخلافاً لكل الإحصاءات التي يروجها الغرب عن نسبة المسلمين و"المسيحيين" في نيجيريا، ككتلتين متساويتين هي ليست دقيقة بالمرة، وهناك تفوق واضح للمسلمين الذين يمثلون غالبية السكان الكاسحة في الولايات الشمالية كثيفة السكان، على عكس نظيراتها الجنوبية التي يشكل المسلمون فيها أقلية (تبلغ نحو 15 مليوناً، ويتركز بعضهم في دلتا النيجر، التي تقع فيها معظم حقول النفط في بحيرة بشرية إسلامية واقعة في محيط "مسيحي" جنوبي).
وإذا كان من قول يقال عن أن الانتخابات النيجيرية ليست منافسة "دينية"، وأن نسبتها لا تعبر عن النسب الحقيقية للسكان، لاعتبار الناخب يبحث عما يحقق برنامجاً اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً يرضيه؛ فإن هذا القول يتعارض مع التمثيل النسبي للبطاقات التي حصل عليها كل مرشح، كونها وضعت ثقلها الكبير في الولايات الشمالية لبخاري، وكذا، في الجنوبية لجوناثان.. وهذه هي الحقيقة بلا أدنى مواربات أو "تجميل دبلوماسي".. فإذا كانت هذه هي "الأنزه" إن جاز التعبير عن انتخابات شهدت أيضاً خروقات، لكنها محدودة كما تكاد تجمع عليه التقارير الواردة من نيجيريا؛ فإن "نزاهتها" النسبية تلك، لاسيما مع استخدام نظام التصويت الإلكتروني لأول مرة للحد من التزوير، تصب في نهر الحقيقة الإسلامية لنيجيريا كدولة يمثل المسلمون فيها أكثر من 60% من سكانها، ويشغل "مسيحيوها" ووثنيوها أيضاً، مجتمعَين النسبة الباقية.
هذه حقيقة ينبغي أن يبنى عليها لاحقاً، فأول اختبار حقيقي قد أبرز الحجم الحقيقي للمسلمين في أكبر تجمع إسلامي في دولة إفريقية واحدة، يفوق ما لدى مصر وإثيوبيا كل على حدة.. وهذا يجعل اهتمام المسلمين بالشأن النيجيري واجباً محتوماً.
على أن هذه الحقيقة التي أبرزتها، نزاهة نسبية، ومرارة إسلامية من التهميش حقيقية، ورغبة بالاستقرار والأمن محلية وربما دولية، لا تعني بالضرورة أننا حيال انقسام مجتمعي في نيجيريا، أو أن هذا ما يندب إليه هناك.. كلا، بكل تأكيد، ولعلي أستعير عبارة كتبتها قبل خمسة أعوام حول الحالة الدينية النيجيرية تقول "لابد أن يصبح تحقيـق العدالة في توزيـع الثروات بالبـلاد والارتقـاء الاقتصادي ببناء اقتصاد «وطني» مستقل؛ من أهم أولويات الأحزاب والهيئات السياسية التي تعبّر عن المسلمين، والاضطلاع بمسؤولية رائدة في هذا الاتجاه بغية الوصول إلى قواسم مشتركة مع الأطراف الأخرى في البلاد"؛ فليس ثمة ما يدعو لصدام لا يفيد المسلمين، كما لا ينبغي أن يغفل النيجيريون المسلمون أن الضيم الواقع عليهم، قد طال أيضاً غيرهم بسبب احتلال جعل بلداً يملك مقومات كبيرة في خانة الدول الفقيرة.
لقد عانت نيجيريا من حرب طاحنة في الجنوب النيجيري ما بين عامي 1967 و1970 أوقعت نحو مليون قتيل، وها هي تعاني لمدة ست سنوات من لأواء عنف في شمالها الشرقي منسوب إلى جماعة بوكو حرام شرد مئات الآلاف من المسلمين، ولعل هذا كان دافعاً لاختيار جنرال طمعاً في "الاستقرار" في الشمال لاسيما إن كان معروفاً بـ"نجاحه" السابق في تغييب جماعة "مايتاتسين" ذات الجذور الإسلامية خلال حكمه السابق (لم أقف على وجه التحديد عما يثبت أنها كانت "متطرفة" أم لا).. لذا؛ فإن الرغبة جامحة لدى النيجيريين في دولة مستقرة قوية، ويحدوهم أمل في أن بخاري يمكن أن يحقق لهم هذا، خصوصاً أنه الرجل الذي يمكن أن ينظر إليه الراغبون في الاستقرار على أنه قائد صارم سيتمكن من فرض الأمن في ربوع البلاد، وسينظر إليه بعض المتدينين على أنه لا يكن عداءً واضحاً لفكرة تطبيق الشريعة في ولايات الشمال النيجيري، ويشاع أن أطرافاً إسلامية تثق فيه لحد تردد أنباء عن أن بوكو حرام ذاتها قبلته مفاوضاً لها؛ فيما رفض هو تلك الوساطة من قبل!
أما ما يعني المسلمين في كل هذا؛ فهو أجواء قد تلف بلاد نيجيريا، فيها قدر من الحرية السياسية ربما أفضل من سابقه؛ فلئن جرت الأمور على هذا المنوال؛ فهي فرصة هائلة للمسلمين هناك أن يجدوا أنفسهم بعد عقود من الضياع، فيوحدوا مؤسساتهم ويبنوا نهضتهم.. تلكالتي عرفها المسلمون عنهم من قديم، حين كانت قبائل الفولاني تشهد أكبر تجليات مدها الإسلامي في أثناء الخلافة الإسلامية التي قادها الإمام عثمان بن فودي وأولاده وأحفاده في القرن التاسع عشر الميلادي.
هذا المد الذي تعاظم خلال تلك الفترة، سرعان ما تراجع حتى غدا نحو خمسمائة جندي بريطاني ـ في بعض المعارك وأخرى تضم بضعة آلاف فقط ـ قادرين على سحق جيوش المسلمين في شهور قليلة، لأن الفرقة والاختلاف قد دب فيهم، ونفذ أكثر مما كان يحلم به "الاستعمار" الصاعد، حين تشرذمت للعديد من الإمارات المتنافسة، بما أفضى إلى استفراد الغزاة بكل إمارة على حدة وعزلها دون عناء كبير، ولم يزل يستقوي بضعف المسلمين حتى اليوم، مستفيداً من فسيفسائية إثنية ولغوية تربو عن 300 جماعة عرقية ولغوية وقبلية.. هنا كانت النهاية، وبعكسها تقوم النهضة؛ فالوحدة والوعي وبث العلم كفيل بأن يصعد بنيجيريا كأكبر قوة إسلامية "حقيقية" في إفريقيا، مثلما هي الآن أكبر اقتصاد (لا أقواه) في هذه القارة المسلمة المقهورة.
ثمة ما نراه هناك يسعد، لكن ذلك مرهون بتحييد التدخل الخارجي الذي قد يتراءى له أن يجعل فترة حكم جنرال "مسلم" هي فترة التدخل العسكري في نيجيريا، مثلما بشرت الخارجية الإيطالية بعد إعلان النتائج بعدة أيام. وهناك قراءة لا يمكن إهمالها بحال، تفيد بأن التدخل بقوة بحجة بوكو حرام في الشمال يستوجب وجود "مسلم" في سدة الحكم تجنيباً لفكرة الصراع الديني.. ربما..
فإن لم يتم تسميم وضع نيجيريا الأمني، وتصار إلى ديكتاتورية من جديد؛ فأمام المسلمين في نيجيريا غد أفضل إن عمدوا إلى استغلاله على النحو الأمثل.. إن ما يزيد عن مائة مليون مسلم نيجيري بإمكانهم استغلال هذه الفسحة التي ربما تتاح خلال قادم الأيام في الركن الإسلامي الغربي للقارة الإفريقية.