القرم.. لا تكرروا نزع مصحف الأم من يدها
9 شعبان 1436
أمير سعيد

"حملت أمي معها إلى الشاحنة شيئاً٬ وإذ هو قرآن٬ فعمل الجنود الروس على تخليصه منها وإلقائه من الشاحنة"، كانت شمسية بكيروفا التي ولدت في العام 1939 تحكي مأساة أمها، وجيلها كله، والمسلمين جميعاً، حينما أرغمت الأم على ركوب شاحنة مع غيرها من أبناء القرم في العام 1944 تمهيداً لحشرهم في قطارات الماشية المتجهة إلى سيبيريا، حيث قضى نحو نصف مليون تتري قرمي نحبهم في جريمة ستالين الرهيبة التي تلت عمليات تهجير وإبادة جماعية متوالية قام بها الروس منذ احتلوا شبه جزيرة القرم الاستراتيجية في العام 1783 أفضت إلى إفناء مئات الآلاف، بل ربما الملايين، حيث بدأت روسيا القيصرية حملتها الصليبية ضد تتر القرم المسلمين، وأكملتها روسية البلشفية الشيوعية؛ فأنقصا عدد سكان الجزيرة المسلمة من 9 ملايين إلى نحو نصف مليون أو أقل الآن.

 

 

فقدت القرم 95% من سكانها بحملات إبادة جماعية، لا يكاد يذكرها العالم.. وحدهم تترها ما زالوا يتذكرون بأسى، ويحتفظ المهجرون منهم بمفاتيح أجدادهم المشردين، وهم قبل أيام قد احتفلوا بتلك الذكرى المأساوية؛ فصعدوا يوم 18 مايو الحالي جبل تشاتير داغ، وصلوا الظهر هناك، في ذات المسار، مسار الموت، الذي خطاه أجدادهم وآباؤهم.. لا أحد يذكر مأساتهم، ولو كانت أكبر بكثير من تهجير الأرمن، الذين قاتلوا جيش دولتهم العثمانية في صفوف جيش العدو الروسي؛ فهجرتهم حكومة الاتحاد والترقي إلى الجنوب، حيث الشام وغيرها، وليس إلى سيبيريا المتجمدة مثلما فعل الروس مع التتر.

 

 

المأساة ليست ذكرى، بل حلقات لم تنته؛ فالذين صعدوا جبل تشاتير داغ منذ أيام، لا يبكون أطلالاً فحسب، بل حاضراً أليماً؛ فمن دون الأقاليم الأوكرانية انتزع القرم لتحتله روسيا العام الماضي، وتعيد إخضاعه لنظام شيوعي عفا عليه الزمن حتى في روسيا ذاتها، إذ بات قدر المسلمين داخل الحوض الروسي، وامتداداته في آسيا الوسطى والقوقاز أن يعيشوا تحت نير أنظمة شمولية استبدادية، و"تستأثر" بالشيوعية وحدها من دون البلاد السلافية وغيرها!

 

 

ما إن برقت أعين الأوكران احتفالاً بثورتهم على حكم فيكتور يانوكوفيتش، في يناير من العام الماضي، حتى استولى الروس على المناطق التي تحوي ما تبقى من المسلمين في أوكرانيا، سواء شبه جزيرة القرم أو منطقة تتر الدونباس شرق أوكرانيا، لم يعترف الغرب، غير أنه تواطأ، ولم ينبس ببنت شفة، وما زال به صمم، والتضييق آخذ في الازدياد على مسلمي القرم شيئاً فشيئاً، فذاك مما يسر الشرق والغرب معاً؛ فما إن يظهر هؤلاء وأولئك على مسلمين في أرض إلا وما رقبوا فيهم إلا ولا ذمة.

 

 

لم تعترف أمريكا وأوروبا باستفتاء انضمام القرم إلى روسيا المزور، والذي يعد انحيازهم وهدوؤهم تحت الحكم الأوكراني، بل وانتعاشهم، وعودة بعضهم خلال الحكم الأوكراني القصير لجزيرتهم أكبر دليل على تزوير استفتاء أقيم تحت احتلال روسي بغيض.. لم يعترفا، لكنهما سكتا، حتى حين أقدم الروس على استفزاز المسلمين بشكل بشع قبل عشرة أيام فقط من تذكرهم لمأساة التهجير، بوضع الحزب الشيوعي الروسي في القرم لوحة رخامية في مدينة سيمفروبل عاصمة القرم للدكتاتور الشيوعي جوزيف ستالين، احتفالاً بالإبادة الجماعية لتتر القرم! (آه لو فعلها العدالة والتنمية في تركيا احتفالاً بتهجير الأرمن).

 

 

فوق جبل تشاتير داغ، كان الشباب وكبار السن يواصلون مسيرتهم، بشكل جاد، لكن بعض الشباب كان يبتسم، وهو لا يدري أن المناخ الذي قذف أثناءه أجدادهم وسط جليد سيبيريا، ربما لا يتكرر تماماً، لكن الأحقاد القديمة لم تزل تعتمل في نفوس الروس، وشهيتهم لمزيد من التهجير لتتر القرم لم تزل شرهة.. وقد أماط مفوض الرئيس الأوكراني لشؤون تتار القرم والرئيس السابق لمجلس شعب تتار القرم، مصطفى جميلوف اللثام عن شيء من هذا في حواره مع صحيفة البيان الإماراتية [22 مايو الجاري]، بقوله أن "من الواضح أنه ليس هناك طرد جماعي كما حصل في ٬1944 لكن كما في أول احتلال٬ تمارس روسيا ضغطاً قوياً جداً على مسلمي القرم بحيث لا تترك لهم خيارات سوى الفرار من وطنهم. وعلى مدى العام الماضي٬ وقعت 120 مداهمة على المنازل والمساجد وتخريب للمساجد٬ فضلاً عن اعتقال العشرات بناًء على اتهامات لا أساس لها٬ وخطف وقتل ما يزيد على 20 شخصاً٬ بالتوازي مع ارتفاع حاد في مشاعر الشوفينية الروسية. والأهم من ذلك٬ فإن التتار يعيشون اليوم تحت حكم حافل بذكريات الحقبة السوفيتية. وفي وقت لم يتمكن جميع التتار من العودة إلى أرضهم بعد ٬1944 فإن أكثر من عشرة آلاف أجبروا على المغادرة بعد 2014 بسبب الظروف التي لا يمكن احتمالها والملاحقة من قبل السلطات. وهناك مخاوف من أن هذه السياسة ستستمر وتتكثف".

 

 

لم يكن ستالين هو من نزع المصحف من يد أم شمسية بكيروفا قبل 71 سنة، لكن من فعل كان جندياً بسيطاً، أشبع بالأحقاد الأرثوذكسية على المسلمين، فعمد إلى تنفيذ أجندة قائده بروحها الخبيثة.. تلك الروح التي لم ترد أبداً أن تحتفظ معها مسلمة بمصحفها في طريق هجرتها، لتجد بين جليد سيبيريا حرارة إيمان تتقد في قلبها.. هكذا كان يدرك الجندي قبل القائد، أن الأم إذا ذهبت ومعها مصحفها؛ فإن بقية التتر به سيعودون؛ فنزعوه من يدها، لكن من ذا الذي يقوى أن ينزعه من قلوب أحبته؛ فتعيدهم من جديد - على قلتهم، وابتعادهم النسبي عن جوهره - غصة في حلق الروس إلى يوم المصير..

 

 

عادت جموع من تتر القرم لتلتحم بمن بقي.. ثم قبل أيام كان الآلاف فوق الجبل، يرفعون الأذان.. يصطفون.. يستقبلون القبلة، ثم يقولون: "الله أكبر"..