هكذا، عاقب الأكراد أنفسهم، ومعهم كتلة شعبية من الأتراك، رغبت في تغيير تذكيه آلة إعلامية ضخمة، قادتهم إلى الذهاب ببلادهم إلى حال يعاكس مصالحهم الاقتصادية والسياسية.. هكذا كانت "الإرادة الشعبية".
زلات السياسة ولممها، كبائر، وقد وقع فيها زعيم تركيا أردوغان وحزبه؛ فلم تغفر لهما هفواتهما، ولاقيا نتيجة أدخلت تركيا في منعطف خطر، برغم كل إنجازاتهما الباهرة، وتحقيقهما قفزة هائلة لبلادهما على الأصعدة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية..
خسرا جزئياً برغم براعتهما في السياسة والمناورة، لكن الخسارة الأكبر كانت للشعب التركي، الذي اختار بمحض إرادته اضطراباً سياسياً، وتراجعاً في النمو الاقتصادي، وحكماً ائتلافياً ضعيفاً أو احتمالاً بما هو أكثر إزعاجاً لو ما عجزت الأحزاب عن تشكيل حكومة، وارتأت قوى متحفزة أن تلعب لعبة أخرى "تخرج البلاد من النفق!".
أخطاء أردوغان وحزب العدالة والتنمية كانت محدودة، لولا أنها ظلت موضوعة تحت عدسة مكبرة، عدسة إعلام مناهض لعثمانية تركيا، عمل بجد خلال الشهور الماضية لوضع العصا في دواليب الرئيس والحكومة؛ فالدعوة إلى نظام رئاسي، واقترانه بنجاح حزب العدالة والتنمية في الحصول على أغلبية مريحة قد أمكن شيطنته إعلامياً، لدمغ أردوغان بالسلطوية و"جنون العظمة"، مثلما يقول الإعلام الغربي بتوافق واضح. عدم حسم القضية الكردية، إظهار رئيس الوزراء كرجل ثانٍ في النظام بعد أردوغان بما أضعفه نسبياً، إظهار التحدي للغرب وإعلامه القوي، برغم أن الأخير هو من سعى لاستفزاز أردوغان مراراً، وجود ثغرات أمنية نفدت منها الدولة العميقة لإحداث نوع من القلاقل، إثارة مخاوف بعض المستثمرين المتغربين من خلال تصريحات بدت متصادمة مع الغرب (برغم بدء الغرب في السعي لاستنساخ التجربة المصرية في تقويض نظام الحرية والعدالة)..
هي أمثلة لهفوات الحكومة التركية ورئيس جمهوريتها. بيد أن العوامل المؤثرة حقيقة في الانتخابات لم تكن هذه، لولا أن القوى المناهضة لأسلمة تركيا في الداخل والخارج قد أجادت استخدامها جيداً، فعبر سلسلة من الضربات المحلية والعالمية التي تخرج عن سياق المنافسة الانتخابية الشريفة، منع حزب العدالة والتنمية عن تشكيل الحكومة بمفرده.. أولها: كان التجييش الكردي ضد الحزب الحاكم، وقد تم هذا عبر ما يلي:
1 – تعطيل إنجاز اتفاق كامل مع الأكراد ريثما تجرى الانتخابات. وهذا العامل تتشارك فيه القوى الكردية الداخلية جنباً إلى جنب مع نظيراتها العراقية والسورية، والتي ترتبط ارتباطاً جذرياً مع الكيان الصهيوني، وقد عملت قوى خارجية أبرزها بريطانيا على تعطيل الاتفاق، وأفشلته في الخارج قبل أن ينتقل إلى داخل البلاد، وعملت على تكريس هذا الإخفاق في إنجازه كلياً.
2 – استثمر الغرب جيداً في حزب الشعوب الديمقراطي (الكردي بالأصل)، فمؤسسة دوغان الإعلامية التركية والتي يتشاطر يهود وألمان ومؤسسات إعلامية غربية في أسهمها، علاوة على أنها مارست دعاية سوداء ناجحة إلى حد ما ضد حكومة العدالة والتنمية؛ فإنها حولت دفتها من الدعم التقليدي لحزب الشعب الجمهوري الأتاتوركي إلى حزب الشعوب بغية مساعدته على تجاوز عتبة الـ10% التي تمكنه من كبح الحزب الحاكم عن الفوز بأغلبية مطلقة، وهي التفاتة لا يمكن أن تفسر سوى برغبة ملاك المؤسسة في منع "أسلمة" تركيا، ولو بوضع البلاد على أعتاب أزمة سياسية دون فائدة تذكر.
3 – نفذت أطراف مجهولة عمليات عنف وتفجير واعتداءات على مهرجانات ومرشحي حزب الشعوب الديمقراطي في مناطق الأكراد بصفة خاصة، من أجل إثارة حمية الأكراد للتصويت له، وقد كان آخرها واضحاً في هدفه السياسي، وفي توقيت قاتل، قبل 48 ساعة فقط من التصويت، وأقل من يوم من الصمت الانتخابي، حيث أسفر تفجير مشبوه في ديار بكر الكردية عن مقتل وإصابة ما يربو عن مائة كردي، كما سبقه اعتداء مفبرك على مرشحة للحزب أدى لزيادة التعاطف مع الحزب، لاسيما أن المستهدف امرأة. وقد بدا أن التفجير كان موضع اهتمام غربي مشبوه؛ فقد استغلته دويتش فيللة الألمانية للقول: "نجح دميرتاش في اجتذاب ناخبين من غير الأكراد وأثار الإعجاب في رده الجدير برئيس دولة على هجوم بالقنبلة استهدف تجمعاً لحزبه.." (لم يزد الرجل عن الدعوة للهدوء، فهل كان مفترض أن يدعو للحرب حتى لا يكون رجل دولة بحسب دويتش فيللة!).
4 – بدا من معارك كوباني المبكرة أن الحصان الرابح الذي يراهن عليه الغرب هو الملف الكردي لإسقاط حكومة العدالة والتنمية، وقد وضعت قاطرة مساندة الأكراد أمام عربة الحكومة التركية التي رفضت بذكاء الاستدراج الغربي لتوريط تركيا في التحالف الغربي ضد "تنظيم الدولة"، لكنها وقعت من جانب آخر تحت ضغوط كبيرة إما بالاتهام بدعم الإرهاب، أو بتسخين الجبهة الكردية، مع معركة كوباني، بما مكن أكراد العراق بالحصول على أسلحة ثقيلة من الولايات المتحدة الأمريكية، وكذا مع "المصادفة" اللافتة باندلاع معارك الحسكة بسوريا، لاستجاشة الشعور القومي قبيل فترة وجيزة من الانتخابات، وساهم بحشد الأكراد من جديد حول هدف انفصالي أذكته رغبة في توحيد القوى الكردية عبر الحدود، وهو ما رفع سقف طموحات متمردي جبل قنديل، وأبعد مرمى السلام الداخلي التركي، وحرم العدالة والتنمية من أصوات كردية كثيرة كانت تذهب إليه لاعتباره يمثل الأمل للأكراد، وليس جزءًا من مشكلتهم التي أضحى الشعوب الديمقراطي "أميناً" عليها الآن!
ثانيها: لعبت الطائفة النصيرية دوراً استثنائياً هذه المرة، بخلاف انحيازها لحزب الشعب الجمهوري التقليدي؛ فلقد أُمرت بالتصويت لحزب الشعوب الديمقراطي لضمان تجاوزه العتبة الانتخابية من أجل إسقاط حكومة أحمد داود أوغلو، وهذا الاستثناء لا يمكن تفسيره في سياق اعتيادي خارج عن تأثير الطائفة في سوريا تحديداً، والتي عمدت إلى انتهاج هذا الطريق النافذ لكسر احتكار العدالة والتنمية، وكبح انطلاقته ليس إلا، فلا نستطيع فهم هذا الانحياز في إطار سياسي، تحركه رغبات تصحيحية لأداء حكومة، وإنما أيديولوجية تحكمت لتضرب أخرى حتى لو ترتب على هذا إيقاف النمو الاقتصادي، وإدخال البلاد في نفق مظلم. وهذا بدوره لا يغيب عن تأثير آخر خارجي يتمثل في النفوذ الصهيوني الكبير على الطائفة في كل من سوريا وتركيا، وتجلى بوضوح خلال الثورة السورية. أسفر هذا الانحياز عن وضع 3% من أصوات الناخبين الأتراك في سلة حزب الشعوب الديمقراطي، بما أنجحه في تجاوز العتبة الانتخابية القانونية (10%).
ثالثها: نجاح الدولة العميقة في إحداث قدر من الانفلات الأمني، عبر عدة حوادث ممنهجة بدأت مع اغتيال المدعي العام في أنقرة، وانتهت بتفجير ديار بكر قبل يومين من الانتخابات، وهذا يعيد إلى الأذهان حوادث الانفلات الأمني في العام 2006 في غزة، والنصف الثاني من عام 2012 والأول من 2013 في مصر، والذي تم استغلالهما لإحداث محاولة فاشلة لإطاحة حكومة حماس في غزة، وناجحة للحكومة والرئيس في مصر، وفي الشهرين اللذين أعقبا استفتاء استقلال البوسنة في العام 1992 (قبيل اندلاع الفظائع الصربية ضد مسلميها)..
هذا الانفلات ضروري جداً لوصفة تغيير النظم الديمقراطية عبر اقتران الأمن بالنظم الاستبدادية، أو من جانب آخر (وهذا ما نعنيه هنا)، الإلجاء إلى خيار "ديمقراطي" يقود إليه التخويف من مستقبل أمني مضطرب، لاسيما لو عززته اتهامات بدعم الفصائل الإرهابية على نحو يجعل الناخب يتخوف من استمرار نظام لا يتمتع بعلاقات وثيقة مع القوى الدولية المتحكمة فعلياً في العالم.
لقد كانت حكومة ذات تمثيل برلماني مريح، كفيلة بتغيير دستور أتاتوركي علماني صارم، طالما قاتل الغرب من أجل بقائه، وبقاء نظرائه، في كل بلد مسلم (ليس الدستور المصري الذي وضع في عام الاحتلال 1882، وإزاحة دستور 2012 لأنه لم يكتب على عين الغرب، وعدم إكمال الانتخابات الجزائرية وإلغائها في العام 1991 التي كانت تتوافر لحزبها الرابح أغلبية مطلقة تجاوز الثلثين، وتمكنه من تغيير الدستور العلماني الجزائري، والضغوط الإعلامية والسياسية الهائلة الفاعلة في تونس، والتي أخرجت دستورها 2014 بهذا الشكل.. الخ)، فكان هذا الاحتشاد الداخلي والخارجي، والذي شاركت فيه عشرات من وسائل الإعلام العالمية التي وجهت ضربات موجعة أخرجت الرئيس التركي عن دبلوماسيته واستهلكته في معارك متوالية أبدته متوتراً غاضباً، وساهمت في ترسيخ صورة ذهنية عنه في مقابل "تلميع" عالمي واضح للقادم من الخلف، صلاح الدين ديمرطاش، زعيم الأقلية الكردية، وحزبها، الجناح السياسي لحزب العمال الكردستاني، وثيق الصلة بجهاز الاستخبارات الأمريكي، وأحد المدعومين منه مثلما هو معلوم للباحثين. وكانت حكومة بهذا التمثيل، ضامنة لاستمرار النهوض الاقتصادي، والثقافي، والسياسي لتركيا، لولا أن العوامل الخارجية، والتجييش الواضح بلا مواربة في إزاحة العدالة والتنمية عن الحكم شبه المطلق لتركيا..
وقد حصد الأتراك زرعهم فوراً مع تردي سعر الليرة التركية أمام الدولار، ودخول البلاد في مجهول سياسي، أو مفتوح لاحتمالات معظمها سيء، حيث سيهب على تركيا إعصار من الاضطراب وعدم الاستقرار، سيكون نتيجته، إما حكومة أقلية عاجزة عن اتخاذ أي قرار، أو تشكيل حكومة ائتلافية ضعيفة متضاربة البرامج والتوجهات، ويعمل بعض أعضائها على إفشالها، مع زيادة حدة الاستقطاب إن ضمت هذا الحزب أو ذاك، أو انهيار الحكومة، والذهاب إلى انتخابات مبكرة..
ومن يدري، فلعل ثمة من يقف من بعيد – كبعد احتماله هذا - داخل أجهزة الدولة العميقة يترقب أي اضطراب - يبدو أن كل الأحزاب العلمانية بإصرارها على وضع العربة أمام الحصان تقود إليها ـ ليعلن بيانه الأول عن "اضطراره لإنقاذ البلاد من الفوضى"، ثم يعيد جون ماكين حديثه عن "البطة التي لا يمكن إلا أن تسمى بطة"!