23 ذو القعدة 1436

السؤال

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، الحمد لله أني وصلت لموقعكم، لأشكو حزني لكم، بعد الله سبحانه وتعالى. عمري الآن 21 سنة، متزوج ولي ابنة، والآن أكرمني الله سبحانه وتعالى بأن زوجتي حامل، وأنا طالب أدرس بكلية الصيدلة، ونفقة دراستي ومصاريفي كلها من الوالد.
بدأت أعمل مع الوالد في المكتب، لكنه لا يكلمني، ولا يعلمني أساسيات العمل، بنفسه، وإنما يكلم الموظفة تعلمني، وليست مشكلتي في العمل فقط، وإنما في البيت وخارج البيت لا يكملني، ويمر اليوم كاملاً ونحن مع بعض، في العمل والبيت لا يكلمني، وإذا تكلم يكاد يقول كلمتين ويسكت، وأنا كلما أحاول أتكلم معه حول أي موضوع أخاف، ولا أستطيع أبداً.
وكلما أرى الوالد أو إذا اتصل بي، أخاف جدًا، لأنه يتعصب على أبسط الأمور، والدي كل عمره في الغربة، وأعتقد أن هذا هو سبب عدم التواصل بيني وبينه، حاليًا لو أراد الوالد مني شيئاً يوسط الناس حتى تكلمني بالموضوع الذي يريده، وهو لا يكلمني إطلاقاً به، ولا أعرف ما السبب، طبعاً الوالدة متوفاة من عشر سنين، وأنا وحيد أخواتي، أنا أقعد في البيت، والوالد في الغربة.
حالياً صار عمر الوالد 46 سنة، وهو دائماً يقول إني لا أنفع بشيء، وأن الفلوس التي جمعها سوف أضيعها بأسرع وقت، للعلم أني مجتهد بدراستي، وملتزم.. أفيدوني كيف أخلق روح الأخوة بيني وبين والدي؟، وكيف أقدر أضحك معه ويضحك معي، ونمزح مثل ما يفعل مع الناس الآخرين؟، فأنا كل يوم في اكتئاب، وتسوء العلاقة أكثر وأكثر مع والدي.

أجاب عنها:
همام عبدالمعبود

الجواب

ولدي الحبيب:
السلام عليكَ ورحمة الله وبركاته، وأهلا ومرحبا بكَ، وشكر اللهُ لكَ ثقتكَ بإخوانِكَ في موقع (المسلم)، ونسأل الله (عز وجل) أن يجعلنا أهلا لهذه الثقة، آمين.. ثم أما بعد:
قرأت رسالتك جيدًا، وفهمت منها أن: عمرك 21 سنة، وأنك متزوج، ولك ابنة وزوجتك حامل، وأنك تدرس بكلية الصيدلة، وأن والدك هو الذي يتكفل بنفقات الدراسة كاملة، وأن والدتك متوفاة منذ عشر سنين، وأن والدك عمره 46 سنة،
كما فهمت من رسالتك أن مشكلتك تتلخص في علاقتك مع والدك، وإحجامه عن الحديث معك، سواء في البيت أو الشغل، لدرجة أنه لا يهتم بتعليمك أساسيات العمل في المكتب بنفسه، وتكليفه إحدى الموظفات بالمكتب للقيام بالمهمة، وأن الأمر وصل إلى حد أنك تخشى أن تتكلم معه، وتتجاذب معه أطراف الحديث، كما هو المعتاد بين الأبناء والآباء، ويراودك شعور بأنه قد يتعصب عليك إن بدأته بالكلام أو سعيت للتواصل معه.
كما فهمت من رسالتك أن والدك أمضى غالب عمره في الغربة، وأنك تعتقد أنه هذه الغربة ربما كانت السبب في حالة عدم التواصل بينكما، والتي تشكو منها، وتقول إن علاقتك بأبيك وصلت إلى مرحلة صعبة، لدرجة أنه إذا أراد منك شيئاً يوسط بعض الناس ليحدثوك في الموضوع الذي يريده، ورغم أنك تقول إنك لا تعرف سبب ذلك، إلا أنك أشرت في رسالتك إلى أن والدك يعتقد أنك لن تنفع في دراستك، وأنك ستتسبب في ضياع الأموال التي جمعها من الغربة، وتختتم بقولك "للعلم أني مجتهد بدراستي وملتزم".
وتتساءل: كيف تعيد الروح إلى علاقتك مع والدك؟، بحيث تشعر بأبوته وحنانه وحبه؟، وتخشى أن تستمر حالتك كما هي عليه الآن "في اكتئاب"، كما تخشى أن تسوء العلاقة بينكما وتصل إلى الأسوأ.
بعدما حللنا رسالتك، ووقفنا عند أهم ما فيها، يمكننا أن نحدد ملامح المشكلة التي تعاني منها في النقاط التالية:
1) افتقادك حاسة (الأمومة) مبكرًا، وعيشك منذ أن كنت في الحادية عشرة من عمرك بدون حنان الأم، حيث رحلت والدتك منذ 10 سنوات.
2) افتقادك حاسة (الأبوة)، وعيشك وحيدًا طوال كل هذه السنوات، بسبب غياب والدك في الغربة.
3) اتجاهك للزواج المبكر، رغم أنك لا تزال طالبًا تدرس بالجامعة، وفي كلية عملية (الصيدلة)، تحتاج منك للتفرغ والتركيز والاجتهاد.
ولدي الحبيب:
بعد ما سبق؛ وللرد على استشارتك، فإنني ألخص لك ردي في النقاط التالية:
* الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم، والاستعانة به عز وجل، وتصحيح النية، واللجوء إلى الله سبحانه وتعالى.
* محاولة التغلب على الماضي الكئيب، ونسيان ما مضى، والتخلص من مخزون الوحدة، والشعور بالغربة.
* امتلاك الإرادة القوية، والعزيمة الجبارة، والرغبة في التغيير، والتحول إلى الأحسن، والنظر إلى المستقبل بإيجابية.
* ضع المشكلة التي تعاني منها، والتي تتمثل في غياب الثقة والحب بينك وبين والدك، في حجمها الطبيعي، دون إفراط أو تفريط.
- في مثل تلك الحالات التي تنغلق طبيعة الآباء عن الحوار يمكننا أن ننبههم عن طريق الأصدقاء المقربين للمشكلة بأسلوب حسن جميل موجه، فابحث عن الصديق الأقرب إليه واجعله واسطة بينكما لينتبه للمشكلة ويسعى إلى حلها ومن ثم يكون دورك أنت.
* اجلس مع والدك، منفرديْن، وصارحه بحقيقة المشكلة، وانقل له الأحاسيس والمشاعر التي تنتابك، بمنتهى الصدق والوضوح.
* احرص على التزام غاية الأدب، ومراعاة قواعد الذوق، وأصول اللياقة، في التعامل مع والدك، خاصة وأنت تتحاور معه.
* اكشف لوالدك عن حجم المعاناة التي عشتها، بدون حنان الوالدة رحمها الله، وبعيدًا عن رعاية وتوجيه الوالد، خلال غيابه في الغربة.
* اطلب منه أن تفتحا سويًا صفحة جديدة، ملؤها الاحترام والتقدير له ولمكانته وجهده كوالد، والحب والمودة والرعاية لك كابن.
* اعترف له بفضله عليك، بعد الله عز وجل، بدءًا من كونه سبب وجودك في هذه الحياة، إلى تحمله جميع نفقات معيشتك وتعليمك.
* اجعل نفسك وزوجك وابنتك، رهن إشارته، واجتهدوا أن تملئوا له الفراغ الذي يعيشه، وأن تغيروا له الصورة السلبية التي كونها عنكم.
* ابتعد عن الوسطاء، ولا تسمح لأحدٍ كائنًا من كان أن يتدخل بينكما، وأن يفسد العلاقة الطبيعية التي أودعها الله في قلوبكما.
* عاهد والدك على الاجتهاد في دراستك، والحصول على بكالوريوس الصيدلة، وإنهاء هذه المرحلة من عمرك، للتفرغ للعمل، وحصاد تعب السنين.
* واصل عملك في الشركة مع أبيك، ما استطعت، مع الموازنة بين عملك ودراستك، دون أن تطغى إحداهما على الأخرى، مع الحرص على مستقبلك.
* اجتهد أن تغير الانطباع السيئ الذي كونه والدك عنك، من ناحية الفلوس، فأظهر له حرصك على ماله، وأزل من ذهنه فكرة الإسراف والتبذير.
* تحمل ردود فعل والدك، خلال هذه الجلسة المحورية، واصبر لغضبه، ولا تنفعل لحديثه، ولا تُستفز من كلماته، فهو في الأول والأخير والدك.
* احذر عقوقه مهما فعل، وأحرص على بره ما استطعت إلى ذلك سبيلاً، ففي عقوقه النار، والبر به طريقك إلى الجنة.
وختامًا؛ نسأل الله (عز وجل) أن يصلح لك ما بينك وبين أبيك، وأن يهد قلبه، وأن يبعدك عما يجلب سخطه وغضبه، وأن يوفقك إلى بره وطاعته، وأن يصرف عنكما كيد الشيطان ومكره، وأن يلين لك قلب أبيك.. وصلِّ اللهمَّ وسلم وبارك، على خير خلقك، وخاتم رسلك، سيدنا محمد؛ وعلى آله وصحبه. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.