الرموز في مرمى الغلاة
26 شوال 1436
د. عمر بن عبد الله المقبل

مصطلح "الرموز" في حديث الناس يشير إلى بعض فئات المجتمع ذات التأثير فيه؛ كالسياسي، والشرعي، والاجتماعي.

 

 

والرموز الشرعية هي أكثر هذه الفئات التي يحرص الغلاةُ ـ وعموم المنحرفين فكرياً ـ على إسقاطها، لعلمهم بقوة تأثيرها - ليس على شباب بلادهم فحسب، بل - في العالم أجمع، وهم في هذا يطبقون ـ شعروا أم لم يشعروا ـ الطريقة اليهودية التي نصّت عليها بروتوكولات حكماء صهيون، الذي يقول: "وقد عنينا عناية عظيمة بالحط من كرامة رجال الدين في أعين الناس ـ ويعنون برجال الدين هنا: العلماء من غير اليهود ـ، وبذلك نجحنا في الإضرار برسالتهم التي كان يمكن أن تكون عقبة كؤوداً في طريقنا، وإن نفوذ رجال الدِّين على الناس ليتضاءل يوماً فيوماً"([1]).

 

 

بل هذا منهجٌ معروف سلكه قديماً رؤوسُ أهل البدع، فهذا عمرو بن عبيد ـ أحد رؤوس المعتزلة ـ يقول: "لو شهد عندي علي، وطلحة، والزبير، وعثمان؛ على شِراكِ نعل ما أجزتُ شهادتهم!!"، وقال مرةً مستنقصاً الإمامين الحسن البصري، ومحمد بن سيرين: "ألا تسمعون من كلام الحسن وابن سيرين عند ما تسمعون إلا خرق حيضة مطروحة؟!"([2]).

 

 

فما أشبه الليلة بالبارحة! فأربعة من المبشَّرين بالجنّة لا تُقبلُ شهادتهم عند هذا الرقيع! واليوم يرددُ بعضُ الغلاة ومَن شابههم عبارة عمروٍ في علماء كبار، ويقولون عنهم: إنهم علماء حيض ونفاس!

 

 

إن الشاب في بواكير عمره يحتاج إلى قدوة يتمثلها، ورمزٍ يتأسى به، وفي البيئة المتديّنة تبقى فئةُ العلماء الكبار، والدعاةُ المؤثرين؛ من أكثر الرموز الشرعية تأثيراً على هذه الطبقة، وكلما كان "الرمز" ذا قَدرٍ ومكانة كبيرة في نفس الشاب؛ صار مصدر إلهامٍ للشاب في حياته، ودافعاً للعمل ومزيدٍ من الفأل، فإذا حُطّم الرمز في نفسه، فهذا يعني تحطّم مستقبله، وإغلاقَ نافذة الفأل التي يتنفس منها عبيرَ الأمل في هذه الأجواء المحزنة!

 

 

 

لهذا يلجأ الغلاة ـ مثل داعش وغيرهم ـ إلى الطريقة اليهودية في تشويه صورة هذه الرموز! يَسْبِقُ هذا كلّه حملةٌ ضخمة لتشويه الدولة التي ينتمي لها، فيُصَوّرُ هؤلاء العلماء والدعاة في ذهن الشاب أنهم علماء سلاطين، وعُبّاد مناصب، وطُلاّبُ مال، في دأَبٍ عجيب على طمسِ عشراتِ السنين بذلها هؤلاء العلماءُ والدعاة في تعليم الناس ودعوتهم، وإن وجدوا زلةً هنا أو هناك ضخّموها وأشهروها؛ في شحنٍ متواصل لتحطيم هذه الرموز في عقل هذا الشاب حتى تتهاوى تلك الرموزُ أمامَ عينيه، فبدلاً من بقاء هيبة التقدير والإجلال اللائق بهم، تتحطم هذه الصورةُ لينتقل ذهنُه مباشرةً إلى الطرف الآخر، ليكون مشاركاً في هذه الحملة بنفسه، وتبدأ معها رحلةُ البحث عن رموزٍ أخرى ـ إذْ لا بد له من ذلك ـ فأين هذه الرموز؟ وما صفاتهم؟

 

 

 

هنا يبدأ الدواعش ـ وأشباههم من الغلاة ـ في طرح "نماذج مُلْهِمة" للشاب، ورموزٍ منتقاة بعناية، تلتقي مع روح الشاب المحطّمة، التي صارت تلهث للبحث عن رمزٍ تَقتدي به بعد سقوط رموز بلده من ذهنه، فيُظهرها التنظيم في صورةِ مجاهدٍ، فارق أهلَه وولدَه ووطنَه من أجل إعلاء كلمة الله! وضحّى بدنياه الزائلة! ثم يحرصُ هؤلاء على إبراز الصورة الرمزية التي يظهر بها هؤلاء القدوات الجدد، فهو يظهر بلباسٍ خاص ـ عمامة وقميص وإزار ـ، وشعرٍ طويل، يحمل السلاح، وربما وضعه خلفه، في صورةٍ تجعله يتصور الفاتحين الأوائل ـ وهذا مقصودٌ منهم ـ، ليرسّخ في ذهنه أن هؤلاء هم القدوات الحقيقية الذين يجب التأسي بهم، واللحاقُ بهم، وأنهم في غاية الطُّهر والنقاء! بخلاف القدوات الأولى التي كان يحترمها، فهي عنده غارقةٌ في الفساد، ومنغمسةٌ في الدنيا، يجب إسقاطها فضلاً عن أن تكون محلّ تأسٍ واقتداء!

 

 

 

إن تحطيم الرموز الشرعية لا يعود ضررُه على الشاب وحده، بل على الأمة كلها؛ لأن هذا يعني باختصار: استيراد "رموز مجهولةٍ" لا يُعْرفُ تاريخها، ولا سابقتُها في علمٍ ولا جهادٍ صحيح، بل قد تكون تابعةً لاستخبارات أجنبية موجّهة ضد بلده ودينه التي خرج منها، وحينها لا تسلْ عن الآثار المدمّرة لعقل هذا الشاب ووعيه، فهل أدركتَ ـ أخي الشاب ـ كيف يخطط الغلاةُ لاختطاف عقلك؟  وجَعْلِكَ في خندقٍ بعيدٍ عن الرموز الحقيقة التي عرفها الناسُ بعلمها ودعوتها؟ لتكون في محضنِ وتوجيهِ أناسٍ لا يمكن أن تَكتب عن أحدهم ربعَ صفحة تعرّفك بحاله وشخصيته، بل أقصى ما تعرفه لقبٌ وكنيةٌ وشاب حديث السنّ، لم تعركه التجارب، ولم يرسخ في علم، فهل تجعل دينك وحياتك رهناً لهؤلاء؟ وقد قال السلف: "إن هذا العلم دِين، فانظروا عمّن تأخذون دينَكم"([3]).

ـــــــــــــــــــــ
([1]) بروتوكولات حكماء صهيون (ص: 187).
([2])  ميزان الاعتدال (3/ 275).
([3]) انظر: سير أعلام النبلاء. ط الرسالة (4/ 611)، (5/ 343).

 

المصدر/ موقع الشيخ المقبل