قبل أكثر من ثلاثة أسابيع، نشرت مجلة Foreign Affairs الأمريكية الشهيرة، مقالاً بعنوان: العالم الإسلامي ليس في حاجة إلى التنوير الغربي، والمقال في ما يبدو يمثل رأي المجلة التي تعبّر عن توجهات النخبة المؤثِّرة في صانعي القرار، لأنه غفل من التوقيع باسم كاتب معين.
وقد تعمدتُ التريث في تناول هذا المقال، زهاء 20 يوماً، طمعاً في أن أجد من يهتم به، سواء من بين عبيد التغريب أو خصومه، ولكن طال انتظاري عبثاً.
المقال مكتوب بلغة شديدة الدهاء، الأمر الذي يجعل عنوانه مضللاً عن سابق عمد وتصميم، فاللغة مواربة والأفكار إيحائية، وما تم إخفاؤه بخبث بين السطور، أهم من كلماته المخاتلة، إلى حد التنافر بين عباراته نفسها.
ما لا يقوله كاتبو المقال الملغوم مباشرة، هو أن "التنوير" بمفهومه الغربي شرط جوهري للتقدم، بدليل تعريفهم لفكرته بأنها: التحول الذي تبناه الغرب منذ قرون عدّة من الإيمان إلى العقل، ومن الدين إلى العلم، ومن السلطة التقليدية إلى الديمقراطية، ومن العنف الديني إلى التسامح..
ليس من جديد في ذلك، فالتعريف المذكور، يمثل شعارات التغريب دائماً، لينتهي العقل المسلم إلى أن الإيمان نقيض العقل، وأن الدين عدو العلم، وأن الغرب أبو التسامح الذي ليس له نظير!!
ولأن الكُتّاب دهاة فقد تظاهروا بالموضوعية، فاختزلوا سوءات تنويرهم بجملة مدروسة تجعل تلك السوءات خسائر هامشية عابرة، في مقابل فردوسهم المزعوم..قالوا: بغض النظر عن أنّ التنوير لم يوقف العنف والتدمير الذاتي في الغرب!!
فما أشد خبثهم وما أعظم دجلهم!!
إن أسوأ أنواع العنف وأضخم ممارساته، اقترفها الغرب بعد عصر "التنوير"، من استئصال السكان الأصليين في أمريكا الجنوبية والشمالية وأسترالية، وتدمير إفريقيا بالاسترقاق القسري لملايين من أبنائها، كان نصفهم يقضون نحبهم في رحلات الموت حيث يشحنهم النخاسون كأنهم بهائم وليسوا بشراً.
وأما الحربان اللتان أغرق الغرب البشرية بكوارثهما، فهما غنيتان عن التعريف.. ومع ذلك، لم يتوقف العنف الوحشي الغربي بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، إلا بين الأوربيين في أوربا نفسها.. ما عدا محاولات سحق مسلمي البوسنة وكوسوفا أواخر القرن الميلادي الماضي.
وأما فظائعهم في الجزائر وفلسطين وفيتنام وأفغانستان والعراق وسوريا، وتعاميهم عن مذابح رواندا ومسالخ مسلمي ميانمار، فلا يحتاج إلى توثيق لأننا نعيشه ليل نهار، وما انقضى منه ما زالت آثاره ماثلة لكل ذي بصيرة.
مشكلة الغرب كانت-وما زالت- تكمن في أنانيته: هو محور الكون، فهو يحدد العقل المقبول، والإيمان المذموم، والإنسان الجدير بالحقوق ومصالحه تعني الاستقرار وأمن البشرية جمعاء.. فما دام الإيمان الكنسي خرافة فكل إيمان خرافة!!
بل إن هذا الغرب المتاجر بتنويره الأعرج، عندما يضطر إلى التخلي عن تقيته تجده صليبياً حتى لو كان ملحداً، ويخص الإسلام بضغائنه موروثها وجديدها على حد سواء..
ولكي يبرر دهاقنة التغريب لعملائهم، قالوا في مقالهم:
"في الواقع، كان القرن الذي أعقب هوبز، والذي شكّل ذروة فلسفة التنوير والعلوم، يُعرف باسم عصر الاستبداد المستنير. لقد كان فريدريك العظيم ملك بروسيا من أشد المتحمسين والمعجبين بالفيلسوف الفرنسي فولتير، وكان مثالًا يحتذى به في رعاية العلوم الحديثة وتطبيق نتائجها على الزراعة، والنقل، والحكومة، وصناعة الحرب. ولذلك؛ سار الملوك في النمسا، والدنمارك، وفرنسا، وروسيا، وإسبانيا، والسويد، على نهج الملك فريدريك، رغم أنّ هذه الدول كانت بعيدة عن الديمقراطية. وبفضل قدرتهم على تسخير تقنيات التنوير في تنظيم الدولة، تمتع حكامها بالمزيد من السلطة أكثر من نظرائهم في العصور الوسطى"!
هذا هو الاستبداد الذي يناصرونه فإذا وصفوه بالاستنارة فهذا يعني أنه استبداد رائع!!
والنموذج الذي يترنمون به دائماً، هو عدو الله أتاتورك:
"وفي أعقاب انسحاب نابليون في عام 1801، أظهرت الإمبراطورية العثمانية عجزها عن فرض سيطرتها، وفي ظل الحُكم القوي من محمد علي الذي استمر لمدة 43 سنة، بدأت مصر عملية التحديث. في القرن التاسع عشر، كثير من النخب العثمانية -الجنود، والبيروقراطيين، والمعلمين- راقت لهم مبادئ التعلم العملي الحديث، على الرغم من أنّ تلك المبادئ أتت من أوروبا التي أهانت إمبراطوريتهم السابقة. ومع نهاية القرن، شهدت تركيا هيمنة الإسلام التقليدي على القانون، والدولة، والتعلم كمصدر أساسي لضعف المسلمين، واعتماد تكنولوجيا ومعتقدات وممارسات عصر التنوير، كأضمن طريق لإنهاء إذلالها. وجاءت اللحظة الحاسمة في عام 1924، عندما أنهى مصطفى كمال أتاتورك الخلافة العثمانية، وأسس جمهورية تركيا، وألقى بمسؤولية الدين على عاتق الدولة العلمانية بشكل حاسم. وقال أتاتورك في خطابه عام 1937: “نحن لا نعتبر مبادئنا مثل العقائد الواردة في الكتب التي يُقال إنها سماوية. نحن لا نستمد الإلهام من السماء أو من عالم الغيب، ولكن من الحياة“. كلمات أتاتورك كانت لتثلج صدر توماس هوبز".
ثم يعمدون إلى التزوير الفاضح، فيقولون:
"ومثلما فعل الملك فريدريك العظيم في القرن الثامن عشر في أوروبا، ألهم أتاتورك بعض المقلدين في العالم الإسلامي، مثل: الشاه محمد رضا بهلوي في إيران، ومحمد علي جناح في باكستان، وجمال عبد الناصر في مصر، والبعثيين في سوريا والعراق. لم يكن هؤلاء مجرد مجموعة من التقليديين الذين ينظرون إلى الماضي؛ بل كانوا بناة دول يتطلعون إلى المستقبل ويسعون إلى تطبيق العقلانية الحديثة والعلوم داخل المجتمع. ولكن مثل الطغاة المستنيرين من القرن الثامن عشر في أوروبا، كان الحُكّام المسلمون العلمانيون في القرن العشرين يسعون وراء السلطة"!
هؤلاء المجرمون الذين دمروا مجتمعاتهم أصبحوا بُناة دول في نظر سادتهم!!
وأخيراً، نصل مع المقال إلى ما حرص كاتبوه على عدم البوح به، فهم يدعون إلى عنف الطغاة لفرض تنوير زائف، لإعادة إنتاج قرنين من القهر والتخلف بسبب هذه الدموية التي يتهموننا بها:
"العنف الذي لا يزال يهز الكثير من المجتمعات الإسلامية هو في جزء منه ناشئ عن مواجهة الإسلام الجارية مع التنوير المفروض على المجتمعات الإسلامية من فوق، بالقدر ذاته الذي فرض به ملوك أوروبا التنوير الغربي على مجتمعاتهم منذ قرون. أيًا كان الذي يحمله المستقبل للتنوير الإسلامي، ينبغي لنا أنّ نفهم أنّ مثل بدايته في الغرب، لا بدّ من وجود العنف حتى يتقدم التنوير؛ لأنّ المشروع الروحي والسياسي لابدّ وأن يثير ردود فعل دينية وسياسية. في الواقع، إذا كنا نريد أن نرى ما بدت عليه المراحل المبكرة من التنوير في الغرب، يمكننا أن نفعل ما هو أسوأ وننظر إلى الشرق الأوسط اليوم"!