القرار صعب للغاية، ويحتاج إلى دراسة دقيقة لكافة العوامل، وفي لحظة خاطفة يمكن أن تكون البحث في كل المؤثرات من المستحيلات، غير أن القرار التركي بإسقاط الطائرة الروسية سوخوي 24 لم يكن ظرفياً؛ فلقد سبقته دراسة متأنية مذ بدأ التحرش الروسي بتركيا بالتزامن مع احتلال الروس لسوريا.
مع هذا؛ فالقرار الذي كان قد اتخذ مبكراً مع تكرار الانتهاكات الروسية للحدود التركية واقترابها من حماها في منطقة ملتهبة لا تسمح بنزق روسي كهذا، وفي دولة مثل تركيا، تناهت إلى نظام حكم مؤسسي مستقر يعتمد على تقدير حكيم للمواقف السياسية، لا يخضع للاستفزازات وإنما ينطلق من استراتيجية واضحة كان القرار جاهزاً، ولم يتلقه الطياران الأحمقان وحدهما، بل سمعه كل العالم قبلهما، وقبل إنذارات الجيش التركي المتكررة، "سنسقط أي طائرة تنتهك أجواءنا" وفقاً لقواعد الاشتباك التي حددتها تركيا، ولم تملَ عليها.
على أن جهوزية القرار لا تعني سهولته؛ فالقرار يتعلق بإسقاط طائرة لثاني أقوى جيش في العالم، ووريث الاتحاد السوفييتي، والقوة العسكرية المنفلتة من كل عقالٍ هذه الأيام، ضاربة صواريخها في كل مكان بعبث أحياناً واستعراض أهوج للقوة في أحايين أخرى. وإذ تكبح الحكمة الجيوش عن الدخول في دائرة ردود الأفعال في مثل هذه الأحوال؛ فإن أموراً تفرض على إدارة الرئيس أردوغان أن تستجيب لنداء الجيوستراتيجية وتطوي صفحة قديمة، وتستعد لمرحلة جديدة.
والمرحلة الجديدة إن أذن الله لها أن تكون على ما يريد الأتراك؛ فهي تلك التي تضعهم في مصاف الدول العسكرية لا نقول العظمى بالضرورة وإنما المرهوبة؛ فمن ذا الذي يجرؤ على إسقاط طائرة روسية إلا أن يكون نداً مكافئاً على المستوى العسكري أو يحاول أن يقترب حثيثاً من منطقة كهذه. هذا التطور إن حدث، أعني إن مرت الحادثة بسلام، ودون رد فعل عنيف من الروس فهي ستضيف رصيداً كبيراً لمكانة تركيا عالمياً، وستمنحها هامش مناورة أعلى في السياسة الخارجية على الأقل في المنطقة المحيطة لاسيما في سوريا والعراق، وسيستعيد قيمة اعتبارية لتركيا ما قبل حكم مصطفى كمال.
على أن موسكو لم تكن تعبث حين أصدرت أوامرها للطيارين الروسيين بانتهاك السيادة التركية؛ فهي إما قدرت صعوبة اجتراء أنقرة على الرد، وبالتالي تؤسس على هذا فرض هيمنتها على منطقة الحدود، والنجاح في عرقلة مشروع المنطقة الآمنة التي تدعو لها تركيا، وهذا احتمالا أقل حظاً من تاليه، وهو أن تكون موسكو قد توقعت رد فعل أنقرة وتمادت من أجل جر تركيا لمعركة أكبر أو الحؤول – أيضاً – بين تركيا ومشروع المنطقة الآمنة، ويعزز هذا عدوانها المستمر مؤخراً على قرى التركمان في جبلهم بالشمال الغربي لسوريا واضطرارها إياهم إلى الهجرة وترك ديارهم، بما يغير التركيبة الديموجرافية في شمال سوريا من جهة ويضعف موقف تركيا في حماية أقلياتها والقوميات الحليفة معها مثلما فعلت في شبه جزيرة القرم ومع مسلمي الدونباس بالشرق الأوكراني.
المعركة الأكبر التي يخشى أن تندلع هي نتاج صراع الإرادات العنيف في لحظة فارقة تريد فيها روسيا وحلفاؤها إبقاء الهيمنة النصيرية على السلطة في سوريا، والإبقاء على مصالح روسيا في سوريا، بل تعزيزها مع احتلاله على النحو البيّن الآن، على أن تقدير أنقرة للموقف ربما كان معاكساً للطموح الروسي؛ فقد اختارت أن تقتنص فرصة خطأ "مصور" للروس بانتهاك الأراضي والسيادة التركية، وتوثق هذا العدوان وتشارك أعضاء الناتو الاطلاع عليه، واضطرارهم إلى تحويل وجهة السفينة الروسية من شاطئ "الدعم التركي للإرهاب" إلى "الرد التركي على انتهاك سيادتها على أراضيها وحقها في حماية حدودها".
على أن الغرب لا يخضع بالضرورة لنداء الحقوق والوثائق بقدر ما يلجئه إليها اضطراره الظرفي للالتقاء مع تركيا في أكثر من ملف. تدرك أنقرة هذا.. تدرك أن دول الاتحاد الأوروبي تعيش هاجساً متزايداً من الطموح الروسي، تماماً مثلما كانت قلقة في نهايات حياة "الرجل المريض"، أواخر أيام الخلافة العثمانية حين أجلت تقسيم تركيا وإسقاط نظامها ريثما تأمن غائلة القوة الصاعدة في أوروبا لاسيما في عهد الإمبراطورة الروسية كاترين الثانية أواخر القرن ثامن العشر. وتعلم دول أوروبا أن وجود تركيا كقوة موازنة في هذه المنطقة الاستراتيجية ربما يقلل من الطموح الروسي، خصوصاً أن تركيا اليوم ليست كتركيا الأمس، من حيث تغير أنماط القوة، واعتماد الجيش التركي على السلاح الغربي بخاصة الأمريكي منه، وكمثال؛ فإن من أسقط الطائرة سوخوي اليوم لم يكن السلاح التركي وإنما الإف 16 الأمريكية الصنع، وهذا يعكس تفوقاً أمريكياً أكثر مما يعكس قوة للقرار التركي وحده.
هذا يفسر – إلى حد ما – التأييد الخجول من الغرب للقرار التركي بإسقاط الطائرة الروسية، مثلما صدر من العواصم الأمريكية والبريطانية والفرنسية ومن الناتو والاتحاد الأوروبي نفسه؛ فهذا على خجله يبدو أنه كافٍ – لحد الآن – في لجم الروس، ومنعهم من اتخاذ قرار متسرع ومتهور يحيل المنطقة إلى شعلة من اللهب.
لذا، كان التقدير التركي جيداً في هذا، وفي استنباطه لصعوبة دخول الروس في صراع أكثر حدة واستنزافاً في وقت هبطت فيه قيمة العملة الروسية للنصف تقريباً جراء هبوط أسعار النفط والتورط في الحرب الأوكرانية بتوابعها من فرض عقوبات غربية على روسيا ثم أخيراً التورط المتدرج في سوريا والغرق في بحر صراعها القاهر، إلى حد أصبح له فيها أسرى وقتلى ونزيفاً من الأموال كبير.
غير ذلك، لا يمكن تجاهل تدفق أساطيل القوى الكبرى إلى البحر المتوسط، روسيا، فرنسا.. الخ، ولا يُعقل أن تكون جميعها قد مخرت عباب البحر بحثاً عن أهداف تخص تنظيماً يذبل شيئاً فشيئاً ولو لم يستهدفه الغرب والشرق (مثلما هو حاصل بالفعل بمستوى واضح)، ولا يمكن التغافل عن قلق الغرب المتزايد من نمو القوى التركية، السياسية والعسكرية والاقتصادية والإعلامية والناعمة الأخرى، وكثيرون يعتقدون أن المنطقة تعد لحدث جلل، وأن ما تطمح إليه فصائل الثورة السورية من تنحية الطائفة النصيرية عن حكم سوريا واحتمال تهديد أمن الكيان الصهيوني، ومن ثم أمن أوروبا كلها هو الأكثر إزعاجاً لأوروبا واستجلاباً لخيلها وركبها، وأن كلا العاملين، نمو تركيا وعثمنتها، وإصرار الفصائل السورية على عدم استبقاء الدولة الطائفية العميقة في سوريا هما مسألة حياة أو موت بالنسبة للأوروبيين وأمريكا وروسيا إلا أن ثمة من يرى أن مبررات تفجير أوروبا لم تتوفر بعد، وبيد الأتراك لم تزل أوراق أخرى، منها ورقة اللاجئين القوية، الآذنة بتفكك الاتحاد الأوروبي إن استخدمتها أنقرة على غير مراد الأوروبيين، ومنها أوراق أخرى مهمة في سوريا والخليج والشمال الإفريقي، فلا أوروبا جاهزة تماماً لهذا الآن، ولا روسيا قادرة، ولا أمريكا متحمسة بالقدر الكافي، وهي لم تزل متأرجحة في سياسة غامضة في المنطقة، وإن أقدم هؤلاء على اقتراف هذا فسيكونون قد اقترفوا حماقة غير مأمونة العواقب على الجميع/تفجير الحرب الشاملة، وهذا يرجح تغليب جانب الضغط على الحرب العالمية.. بيد أنه في عالم متقلب كهذا ليس بمقدور أحد أن يجزم بقادم السياسة ولا حتى صانعيها!