في تقرير قصير حمل عنواناً طريفاً هو "Why the U.S. Can’t Make a Magazine Like ISIS" أو "لماذا لا تصدر أمريكا مجلة مثل داعش؟!" (يعني مجلة "دابق" التي يصدرها التنظيم كل شهرين)، نشر في موقع "ديلي بيست" الأمريكي، سلط معدا التقرير، الكاتبان ويليام ماكانتس وكلينت واتس، الضوء على الفقر الذي يعانيه الإعلام الحربي الأمريكي، ونزوعه إلى الغموض في كثير من الأحيان بما يفقده دوره المطلوب أمريكياً.
التقرير الذي ترجمه موقع "عربي 21" حمل الكثير من علامات التعجب حيال قدرة الولايات المتحدة الأمريكية على الإفادة من آلتها الإعلامية في ضوء محاذيرها الكثيرة في تناول الشأن العسكري لجنودها.
وبغض النظر عن مبالغة التقرير المقصودة في أهمية مجلة "دابق" التي يصدرها تنظيم الدولة "داعش" لإبراز المأزق الذي تقع فيه دولة كبرى كالولايات المتحدة حين تستعرض شأنها الحربي، وحال جنودها خارج الحدود؛ فإن ما يلفت النظر أكثر في التقرير هو حالة العجز التي يركض إليها هذا الإعلام والذي يعبر عن واقع عسكري حقيقي.
ما يلفت الانتباه في المقارنة ليس في قدرة الطرفين، والذي لم يتطرق إلى مدى جدية قوى الاستخبارات الأمريكية في منع انتشار مجلة لتنظيم تعده الأكثر إرهاباً في العالم، ولم يتوقف طويلاً عند حجم انتشار المجلة الضعيف نسبياً، وإنما في مدى قدرة الطرفين على تقديم إعلام مباشر لـ"من يهمه الأمر". فما يقدمه التنظيم هو الاعتيادي والمألوف في عالم الإعلام الحربي، ويتلخص في أمرين:
1 - إبراز التقدم العسكري النسبي في الميدان وتضخيم أثره، والتقليل من أثر التراجع.
2 - إبراز "بطولات" وتضحيات المقاتلين، لشحذ الهمم ولتجنيد الآخرين.
لكن ما يشكو منه الكاتبان هو أن هذا رغم بساطته لا يقدمه إعلام أمريكا، ليس لعجز في الأدوات، وإنما لغابة من المحاذير، يقولان: " الولايات المتحدة عادة ما تنشر تقارير، ولكنها تكون للاستهلاك المحلي، وعندما تقع في يد الكونغرس أو الإعلام، فإنها تثير نقدا ومشاكسات. فلو طلب الرئيس من حكومته تقريرا عن الهجمات، فستحدث (خناقة) بين وزارة الخارجية والدفاع، حول من سيقوم بنشر التقرير. وستخوضان حربا مع الوكالات الأمنية حول التقرير الأمني، الذي يجب تضمينه في التقرير، وهل سيناقض التقرير هذا ما يصر عليه الرئيس بأن تقدما تحقق على الأرض ضد تنظيم الدولة؟ وهل سيؤثر هذا على قدرة الجيش العراقي؟ وهل يحمل التقرير معلومات كثيرة يمكن للعدو الاستفادة منها؟ وهل الصور التي يحملها تظهر الجنود الأمريكيين بأنهم أشرار؟ وهل سيتم نقد هذا التقرير من الإعلام؟ وهل سيثق الناس بأي شيء نقوله؟. ومن هنا فعندما يخرج شيء من القناة المعوجة للحكومة، فإنه تافه ولا قيمة له".
وعن الجانب الآخر يضيفان: " الأمر الثاني هو قصص المقاتلين، ففي معظم الأحيان يقدم تنظيم الدولة قصصا عن الجهاديين، وبينهم شباب ماتوا وهم يقاتلون على خطوط النار في سبيل قضية التنظيم. وفي أحيان أخرى يقدم المقاتلون قصصهم وعلاقتهم مع المقاتلين. واحتوى العدد الثامن مثلا على مقابلة مع مقاتل أعدم سياسيا، وهو معروف في تونس.. الجيش الأمريكي كان يقوم بهذا من قبل، لكن بعد الحرب في العراق، التي كانت واضحة وعملا كبيرا، توقف عن فعل هذا. فهوية الجنود الأمريكيين في العراق وسوريا تظل سرا؛ لأن الحكومة لا تريد تحولهم وعائلاتهم إلى هدف. ولا ترغب الولايات المتحدة منهم بالحديث عن بطولاتهم وقتلهم؛ حتى لا يثيروا غضب الرأي العام الأمريكي. ودون قصص شخصية لم يبق لدينا سوى طائرات تئز في السماء، وضجيج الضباط الذين يتحركون في أروقة البنتاغون، حيث يتم تقليص الخسارة الإنسانية الفادحة لمجرد أرقام تظهر على شرائح مصورة، وهو ما يعني أن الأمريكيين لن يعرفوا عن الثمن الحقيقي للحرب، ولا يعرف الأجانب أيضا عن التضحيات التي تقدمها أمريكا في هذه الحرب".
ويبدو أن الكاتبين قد خجلا من وضع جيشهما فلم يزيدا عن ذلك؛ فعزيا كل نقيصة تعتريه إلى الضوابط الصارمة، بيد أن الأمر ليس مطلقاً هكذا على عواهنه؛ فما يفتقر إليه الإعلام الحربي الأمريكي لا يعود إلى اللاءات التي تفرضها جهات رقابية عسكرية فحسب، بل في أكثره إلى أمور تخص العمل الميداني نفسه..
ببساطة - على سبيل المثال - ليس للجنود الأمريكيين "بطولات" لكي تقدم كقدوة لزملائهم أو تصلح لعرضها كنموذج يحتذى، بالعكس لديهم ما يحق لهم أن يتواروا منه خجلاً من جرائم حربية، هذا إن شاركوا بأنفسهم في قتال على الأرض، وهو أمر نادر الحدوث.
أيضاً، ليس للجيش الأمريكي في الآونة الأخيرة ما يمكن تصنيفه كانتصارات عسكرية. هناك أهداف تتحقق لكنها تبدو غامضة إلى حد بعيد؛ فعلى سبيل المثال غزو العراق ظهر كحرب خاضتها أمريكا لتسليم العراق لإيران؛ حيث افتقرت نتائج عدوانها إلى أشياء ملموسة نافعة لها كمثل الاستيلاء على نفطه كاملاً أو إقامة نظام ديمقراطي أو حتى إقامة نظام شديد الولاء لها؛ فماذا عساها تقدم لشعبها أو الآخرين عنه.. الأمر عينه ينسحب على حربها ضد "داعش"، حيث بدت الحملة غامضة تقدم طائرة وتؤخر أخرى! فلا يُعرف على وجه الدقة ما الذي تريده الولايات المتحدة منها اللهم إلا إطالة أمد الحرب، وهذا بحد ذاته ليس هدفاً يمكن أن يقدم لشحذ همم مقاتلين، ولا هدفاً سامياً يمكن تسويقه للآخرين.. فماذا عساه يفعل إعلام حربي إزاء هذا النمط العسكري؟!
الذي يكشفه التقرير أكثر أن الولايات المتحدة تغادر ببطء التاريخ كقوة وحيدة في العالم، وهذا من أمارات سقمها، ولعل من هذا ما ورد عن "الخناقة" بين أركان ودواليب الحكم في أكبر قوة عسكرية على وجه الأرض، أو هكذا يقولون!