إلى أحبتي مدرسي الحلقات (ج1)
23 ربيع الأول 1437
د. عمر بن عبد الله المقبل

إلى أحبتي مدرسي الحلقات (ج1)

 

لا أجدني أغبط فئةً من الناس كأولئك الذين منّ اللهُ عليهم بالبذل في تعليم أبناء المسلمين كتابَ الله وسنةَ رسوله صلى الله عليه وسلم، وعلى رأسهم مدرّسو حلقات تحفيظ القرآن الكريم في بيوت الله، وغيرها من محاضن العلم!

لقد كنتُ ـ ككثير من أبناء مجتمعي ـ قبل أكثر من ثلاثين عاماً طالباً في هذه الحلقات، ثم تشرّفت بالتدريس فيها فترة من الزمن، وأدركتُ شيئاً من المعاناة التي يعيشها مدرسُ الحلقة تجاه بعض الأمور التي تَعرض له، وهي على كثرتها في ذلك الوقت إلا أنها اليوم أشدُّ وأكثر تعقيداً، في ظل متغيرات كثيرة، أكثرها خطراً هذا الانفتاح المبكّر لطلاب الحلقات على أنواع الشبهات والشهوات، والذي يصعب الصمودُ أمامه إلا بعونٍ من الله، ثم بأرضية قوية من التأسيس العلمي والإيماني.

ولستُ أزعمُ في هذه الأسطر المختصرة، والمقالات القصيرة استيعابَ هذا الموضوع، ولكن هي محاولة لذِكر بعض المنارات لعلها تُسهم في إثراء البحث فيه، وزيادة النقاش حوله.

وأوّل شيء ينبغي استحضارُه في هذا المقامِ ضرورةُ أن يكون المعلّم على مستوى هذه الأحداث والتغيّرات، وأن يكون بصيرا بذلك؛ فهو في هذا المقام ليس مجرد معلّم! بل هو طبيبٌ وصيدلي معاً، فكيف يمكن للصيدلي صرف العلاج إذا لم يكن التشخيص صحيحا؟!

وأهمُّ من هذا أن يتقدّم المعلّمُ على طلابه بالزاد الإيماني والعلمي؛ ليستمر في طريقه، وليكون توجيهه مبنياً على العلم الصحيح لا على مجرد العاطفة؛ ولهذا كثُر كلامُ السلف عن أدب صاحب القرآن وأثَره عليه في إخلاصه، وفي منطقه وصمته، وورعه وزهده، وفي عزّة نفسِه، وترفّعه عن الدنايا وسَفاسف الأمور، وأثره عليه في ليْلِهِ إذا هجعت العيون، وأثَرُه في علاقته مع والديه وأهل بيته وأشياخه وطلابه، وإن مطالعة كتابٍ ككتاب الآجرّي (360هـ) ـ رحمه الله ـ في "أخلاق حملة القرآن" تكشِف هذا بوضوح.. ولله درّ أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها حين اختصرت ذلك السؤال الكبير عن أخلاقه صلى الله عليه وسلم، فقالت: "كان خلقه القرآن"، لذا لم يستطع أحدٌ من خصومه وأعدائه أن يَطعن عليه في خُلقٍ قطّ قبل الوحي، فكيف بعده!

إن الرسائل التي يتلقاها قارئُ تلك الوصايا العظيمةِ التي ذكرها أئمتُنا ليوقن بأنه لا بد من الزادَين: العلمي والإيماني لصاحب القرآن، وإلا فقد ينقطع يوماً؛ فالطريق طويل، ولا بدّ له من زاد يوازيه في الطول ومشقة الطريق.

وإنما عتنى العلماءُ بهذا النوع من الوصايا، وكثّفوا الحديثَ عنها بأساليب مختلفة؛ لعلمهم بأن صاحب القرآن محطُّ أنظار الناس، وأنه ليس كآحادهم، وأن إخلاله بمواضع القدوة قد يكون فتنةً لغيره، إذْ سيقول الناس: هذا فلان، لم ينتفع من القرآن! أو لو كان للقرآن أثرٌ عليه لرأيناه في قوله وفعله! ولهذا فإن على المعلّم مسؤولية كبيرة في رعاية انتسابه لهذا الكتاب العظيم، وتلك المحاضن التربوية.

وأما الزاد العلمي: فلا يقلّ أهميةً عن الإيماني، بل الزاد الإيماني مبني على الزاد العلمي، فإن الطريق لا تُضيء معالمه إلا بالعلم، وبقدر التزود منه تزداد الإضاءة، وتتضح الرؤيةُ، ويسهل المضيّ، ورأسُ هذا العلم: فهْم وتدبّر كتابِ الله على الوجه الصحيح، فإنه من أعظم ما يبصّرك ويزيدك إيماناً، ويعلّق قلبَك بالملكوت الأعلى، ولو أن كل معلّمٍ أخذ على نفسه تربيةَ نفسه بطريقة السلف؛ بتعلُّم عشر آيات كل يوم أو كل أسبوع، وما فيها من العلم والعمل؛ لرأينا العجَبَ العاجب في أثر ذلك على المعلّم ثم طلابه. وللحديث صلةٌ إن شاء الله.

_______________________________

* المصدر: الموقع الرسمي للأستاذ الدكتور عمر بن عبد الله المقبل