منار السبيل في 30 عاماً.. قنطرة د.ناصر العمر إلى الفقه الحي
26 رجب 1437
أمير سعيد

بين فقه غاب في قرون مضت، وآخر حي يتكلم ويتفاعل ويسري روحاً ومنهجاً وحضوراً، يعالج المشكلات الآنية، ويتدفق اجتهاداً مع الواقع، تتجلى الفوارق وتظهر المسافات بعيدة..

 

تعليم الفقه الإسلامي باب عظيم، لكن الحياة به وإحياءه أعظم وأقوم سبيلاً، والاقتصار على تدريس أبوابه في حده العلمي النمطي أمر محمود، غير أنه في ظل غربة سائدة للدين في النفوس يبقى الآكد والأقرب طريقاً إلى الصلاح والإصلاح هو مزج الفقه بالواقع، وممارسة الإرشاد التربوي والاجتماعي والتوعوي عبر أقسامه ومباحثه.

 

تلقى المسلمون قرآنهم غضاً طرياً يستعرض معهم كل حادثة وكل شاردة وواردة ترسم معهم منهجهم الواضح الفريد وتبتعد بهم عن بنيات الطريق، جدله وسفسطته وتشعباته؛ فلم يكن كتاب ربهم كتاب فقه ولا عقيدة ولا علوم إنسانية ولا... وإنما كان كل هذا، ممتزجاً بعضه ببعض، يستعرض حكماً فقهياً؛ فيسارع بك إلى معنى إيماني، يحكي تاريخاً ثم يذكرك باليوم الآخر، يحث على خلق ثم ينقلك إلى معلم تربوي، يربط واقعاً بماضٍ ويعبر لمستقبل وآخرة، يتحدث عن خلق ذميم؛ فيبغضه بصورة تأنفها النفوس الطيبة والفطرة السليمة..

 

هكذا، القرآن، وفي طريقته هذه لا يغيب عن الأذهان أن طريقته الراشدة ناجعة في ترشيد الطالبين عند تدريس العلوم الشرعية؛ فالذي ينأى بها عن الجمود هو تفاعلها مع الواقع واشتباكها مع مشكلاته ومعالجته لأمراضه..

 

وإذ كثرت وطغت هذه المشكلات، وتلك الأمراض، كان لزاماً على كل حصيف أن يجعل من دروسه العلمية منارة منهجية يآب إليه، ويعاد عند كل نازلة وآبدة.. ومن هنا كان تميز درس الشيخ ناصر بن سليمان العمر، الذي ما فتأ أن جعل من درسه الممتد على مدى ثلاثة عقود كاملة في شرح كتاب منار السبيل نموذجاً لهذا المسلك القويم؛ فتطلعت له دوماً نفوس الحائرين عند كل أزمة وكل مشكلة وكل مستجد.

 

ولم يكن الدرس بعيداً بـ"الفقه" عن "الفقه" بمعناه اللغوي، فلم يخل من فائدة سلوكية أو أخلاقية أو ملمح تربوي أو منارة فكرية أو محطة سياسية تمر بها أمتنا المهيضة، وإليه كان مقصد طلاب العلم في كثير من المسائل الشائكة التي تمر بأمتنا، وتطلعت إليه فئام من الناس تسترشد بما يوضحه الشيخ العمر حفظه الله من وقفات مستحقة عند التغيرات والأحداث والفتن التي تتوالى على الأمة.

 

ولقد يكون استمرار هذا الدرس على مدى هذه العقود الثلاثة موحياً لأكثر من معنى، لعل البعض قد سبق إلى الحديث عن المصابرة والجد والالتزام الذي يفوق المألوف والاعتيادي بمراحل، وهذا بالتأكيد ملحظ جدير بحط الرحال عنده، غير أن ما يلفت النظر أكثر ليس هو محض الاستمرار والدأب، وإن كان لكبير بذاته، وإنما ما يسترعي كثير النظر والتأمل، هو قدرة الدكتور ناصر العمر على المحافظة على استمرار درسه برغم كل المتغيرات المحيطة به.. إن ما يثير التعجب كثيراً والتأمل طويلاً هو أن الشيخ لم يكد يترك حدثاً مفصلياً أو قضية فكرية عامة تستحق الحديث بشأنها ويتوفر لديه فيها رأي مستقر راجح إلا تناوله، من دون أن يخشى ردات الفعل حياله ما دام يقصد به طريق الوسطية والرشد. نعم إن من أبرز ما يتميز به خطاب الشيخ العمر خلال دروسه على مر كل هذه السنين هو تمتعه بالحكمة في التناول، والوسطية في الطرح، والشجاعة في العرض، والهدوء المنافي للتهييج والعبثية.

 

صعب، بل يكاد أن يستحيل أن يتناول امرؤ كل هذا الكم الهائل من الموضوعات الشائكة، وفيها قضايا أممية تعبر فوق جغرافيا العالم الإسلامي كله، وتتناول مسائل عديدة ومعقدة من دون، خارجاً معها برأي حكيم يسير فوق جريدة مسننة من العوائق والتحديات.. إن سر ثبات هذه المعادلة ونجاحها، هو في وسطية المنهاج ورشده، ليس في وقفات الدروس وحدها، بل في جوهر الدرس ذاته، منار السبيل، الذي يكاد أن يخلو من فتوى شاذة أو رأي مخالف لما استقر لدى الأقدمين ولم ينكره المتأخرون..

 

هذا، ولئن استحق ذاك من بعد تأملاً، فليعاين امرؤ ما يعاينه الناس من شطط الآخرين، ومنهم أولئك المتغربون الذين يفتؤون يذكرون العلماء والشيوخ بكل نقيصة، ويزعمون لأنفسهم فهماً "تنويرياً" لم يتوفر لمثل هؤلاء العلماء، الذين إن استعرضنا منهم فقط نموذجاً كهذا، لوجدناه كـ"العمر" ممن أنفق "العمر" في تدريس علوم الشريعة، حتى إنه في كتاب واحد يزيد في ساعات شرحه عن ألف ساعة، وفي تحضير درسه آلاف الساعات. فأين هؤلاء المتفيهقون "المستثقفون" من أولئك، وما د.العمر إلا واحداً من هذا النسيج المبارك.

 

مد الله في عمر الشيخ ناصر العمر في عافية وإخلاص، ونفع بعلمه في حياته وبعدها، وكتب الله له الأجر والمثوبة..