سيراق مداد كثير مدة طويلة عن الانقلاب الفاشل في تركيا، لأن نتائجه –لو نجح- كانت كارثية على المنطقة وتحديداً على المسلمين الذين تكالبت عليهم الأمم من كل حدب وصوب، تريد استئصالنا – وفي الحد الأدنى- تحويلنا أقلية من الأقليات؛مع الحرص على إذلالنا فهم إذا حشدوا طاقاتهم بهذا السعار المكشوف ونحن كثيرة فكيف سيتصرفون معنا إذا بتنا كبرى الأقليات بدلاً من وضعنا الحالي حيث لا مقارنة بين أعدادنا وأعداد الأقليات المتحالفة مع الصليبيين الجدد والصهاينة والبوذيين والهنادك والملاحدة؟
إخفاق عالمي ونجاح تركي
سقط الانقلاب بفضل الله ثم بيقظة الشعب التركي ووقوفه صفاً واحداً متراصّاً دفاعاً عن بلده وكرامته ومستقبل أجياله، وليس من أجل شخص بالرغم من تصاعد شعبية أردوغان باعتراف أشد أعدائه.
وسقطت مع الانقلاب الفاشل أسطورة الإعلام الغربي، الذي يتعالى على أمم الأرض زاعماً أنه -وحده- الإعلام الموضوعي الحر النزيه المستقل!! فقد أثبتت ساعات الانقلاب ثم الأيام التي تلت فشله الذريع، أنه ليس موضوعياً وليس حرّاً ولا نزيهاً ولا مستقلاً!!
لست ألقي كلاماً بهذه الخطورة من دون أدلة دامغة لا تترك للشك أدنى احتمال.
قبل تقديم البراهين من رصد دقيق وأمين لأداء الإعلام –الغربي وذيله العربي-، يجب أن يشهد المرء بنجاح الإعلام التركي في هذا الامتحان، مع أنه الوحيد الذي كان مُعَرّضاً للضغوط المباشرة؛بل للأذى المهلك والذي رأى المشاهدون في العالم شواهد صارخة عليه، منقولة على الهواء مباشرة كما جرى عند اقتحام الانقلابيين مقر الفضائية الحكومية بغلظة وأجبروا مذيعةً على تلاوة بيانهم القميء.. وبعد انهيارهم واضطرارهم لمغادرة المكان مع تباشير فشل مؤامرتهم، ظهرت المذيعة لتروي تفاصيل ما حصل معها، ومشاعرها لحظة قهرها على أن تقرأ بياناً سفيهاً ليس لها به قناعة، لأنه غير مشروع بحسب الدستور والقوانين في البلد.
وكان ثبات الإعلام المشتهر بمناوأة أردوغان وحزب العدالة والتنمية، في وجه الانقلاب الأثيم، دليلاً على جرأة سياسية ومهنية، انطلاقاً من قناعة الجميع أن العسكر إذا حكموا فإنهم يسلبون الشعب كله حقه في اختيار من يحكمه!!
أين تعدديتكم؟
يفتخر الغرب تقليدياً بـ: تعدديته في السياسة والإعلام وسائر مجالات الحياة، لكن المذهل أن يتخلى الغربيون فجأة عن ذلك الفخر وأن تصبح وسائل إعلامهم نمطية متشابهة، وكأنها وسيلة إعلام واحدة!!
مع أن موقعين إلكترونيين يعملان بقرية نائية في شمال السويد أو جنوب أستراليا لا يتفقان عادة على بنود ميزانية القرية الميكروسكوبية!!
والأشد إثارة للغرابة أن نمط البوق الواحد ساد تغطية القوم لأحداث الانقلاب وكذلك لوقائع اندحاره!!
لم تعد الغارديان مثلاً تنتمي إلى يسار الوسط-بحسب التصنيفات السياسية المألوفة- لأن صراخها لم يختلف عن زعيق فوكس نيوز المصنفة في أقصى أقصى اليمين!!
من العرس إلى المأتم مباشرة
كان الإعلام الغربي في فترة تنفيذ الانقلاب أكثر دهاء وأشد مكراً من توابعه العربية، فقد شغلت القنوات مشاهديها بتنظيرات رجال استخبارات سابقين لإحداث تأثير نفسي لقائد الانقلابيين، ولكن بغلاف من التحليل؛ أما أبواق العرب فقد انتهزت الفرصة للتشفي من أردوغان وكأنها إعلام حزبي دعائي فج، ونشر بعضها أخباراً كاذبة – مثل هروب الرئيس التركي وطلبه اللجوء في ألمانيا- فلم يقف الأمر عند زلات اللسان التي تكشف خبايا العقل الباطن.
وكان الإعلام المصري هو الأشد هبوطاً، فقد أطلق أحدهم وصف ثورة على الانقلاب، ولما عرف بفشله، لم يتنازل أن يعتذر من مشاهديه!!
وفي الصباح صدرت الصحف بعناوين دخلت التاريخ كشاهد على سخف الإعلام الذيلي القبيح، وكانت تقول: الجيش التركي يطيح بأردوغان ويستلم السلطة!!
وبعد الفشل انتقل الإعلام العربي المتعصب من التطبيل لنجاحه الموهوم، إلى نظرية: أن الانقلاب كان مسرحية من إخراج أردوغان وتنفيذ الجيش التركي!!
وامتلأت مواقع التواصل الاجتماعي بسخرية مريرة من قِبَل الناشطين والمتابعين، على سوء الأداء الإعلامي بصورة مزرية تجاوزت ما سبقها من سقوط كان متدرجاً نسبياً.
تصفية حسابات
وهنا تفوق الإعلام الغربي على أتباعه العرب بخبثه وقدرته على تحريف الكلم عن مواضعه، وسار في ركاب ساسته الذين صعقهم وغاظهم فشل الانقلاب، فانهالت الدروس والمواعظ على أنقرا لحماية الانقلابيين والإحسان إليهم!! وترافق ذلك مع تهديدات خشنة أطلقتها أمريكا وأوربا، ورد عليها الساسة الأتراك بمنطق قوي، فقال أردوغان: عندما وقعت أحداث سبتمبر هل تحاورت واشنطن مع ابن لادن؟ وقال رئيس الوزراء بن علي يلدرم: ما الوثائق التي قدمتها أمريكا وهي تضرب أفغانستان وتسوق المئات من المتهمين بلا أدلة إلى معتقل غوانتنمو؟
وتفرد موقع بي بي سي بالإنكليزية بنشر تهديد ضمني فاضح: هذا الانقلاب لن يكون الأخير!!
طبعاً، يقتضي الإنصاف التنبيه إلى أن الإعلام الغربي المتعصب لم يستطع كتم أصوات استثنائية كالبريطاني الشهير ديفيد هيرست، فقط لأن هيرست قامة تستعصي على التعتيم، فلديه القدرة على توصيل آرائه إلى جمهوره العريض حتى من خلال الإعلام الجديد!!
وأما "نكتة" الختام فأتت من عنوان صحيفة الوفد-الحزب اللبرالي العريق!!!- في اليوم التالي:
أردوغان يقود انقلاباً على الديموقراطية!!