وصلت إليها بعد غياب قسري دام 32 عاماً، رحلت عن الشام التي لم أنساها يوماً بسبب إجرام الأب المؤسس حافظ أسد الذي انتفض عليه فتية آمنوا بربهم وأدركوا خسة ونزالة هذه العائلة المجرمة وخطرها على مستقبل سوريا والعالم العربي والكون كله ، لكن لم يصدقهم الكثير، وخانهم الأكثر، لتدفع الشام والأمة بعد عقود ثمناً باهظاً ولا تزال...
حين وصلت إليها مغطياً أخبارها لقناة الجزيرة كانت فرحتي لا توصف، وأنا المتجول في أحيائها وأزقتها، فالشام وما أدراك ما الشام، درة الحواضر، ولذلك تشرفت بأن تكون عاصمة الدولة الإسلامية الكبرى، فكان وصولي بفضل الله تحدياً للطاغية وللعصابة الحاكمة، وكانت رسالة لكل من وراءه أن ها قد عدنا، فالشام لأهلها ولن تكون يوماً للأغراب المستقوين بغيرهم... ولربما أكتب يوماً عن تلك المشاعر الرهيبة التي تملكتني يومها، من العودة إلى الوطن بعد طول غياب، وأكتب عن أهل الشام وغوطتها الغناء التي وصفت بأنها أجمل بقاع الأرض كما قال عنها البيروني، لم يخطر ببالي وأنا الذي أغادرها بعد نهاية مهتمي الإخبارية، أن السفاح مستقوياً بتواطئ الكون والعالم سيقدم على فعلته الكيماوية الكبيرة بعد شهور من مغادرتي لها، وإن كانت البوادر قد بدأت حين جسّ نبض العالم باستخدامه في حرستا يوم كنت هناك، وسعيت إلى تغطية ذلك عبر الجزيرة العربية والانجليزية ولكن العالم حشى آذانه بقطن سميك رافضاً الاستماع إلى آنات المكلومين في الشام، والإنصات إلى تقاريرنا يومها...
ولما وقعت المجزرة الكيماوية كنت أحّدق في صور أطفال الشام أحفاد بني أمية وهم ممددون على الأرض كنت أحدث نفسي أنكم حتى في الموت لكم رهبة لأعدائكم، تريدون أن تقولوا لهم أننا نائمون لا ميتون، تذكرت يومها جدكم معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه حين أراد أن يدخل عليه في مرض موته بعض الناس، فاستبطأهم وطلب من حاشيته أن يلبسوه أفضل لباسه وتمثل قول الشاعر:
وتجلدي للشامتين أريهم *** أني لريب الدهر لا أتضعضع
وإذا المنية أنشبت أظفارها *** ألفيت كل تميمة لا تنفع
صحيح أن ما يجمع النوم والموت إغماض عينين، لكن شتان بين إغماض عيون ضحايا مجزرة الغوطة مع ابتسامة سخرية من إنسانية كيماوية، وإغماض عيون خصومها لحظة موتهم إذ تفر منها الحيوانات قبل البشر، وستطارد الإنسانية الكيماوية لعنات تلك الطفولة المددة إلى آخر صيحة ديك في هذا الزمان، نظرات الطفولة البريئة كبراءة مياه بردى، نظرات حملان وادعة، لم تكن يوماً إلا ناشرة للعلم والثقافة والشعر والأدب والياسمين، يقابلها نظرات ذئابها وضباعها...قصفوها بالكيماوي السام، بعد أن عجزوا عن مواجهتها وجهاً لوجه كمواجهة الرجال، فقتلوها من بعيد، يخشون المواجهة، ويخشون معها أن تقع عيونهم على عيون أحفاد بني أمية، يخشونهم وهم نائمون كخشيتهم وهم فائقون...
رحل المئات من أطفال غوطة الشام في مثل هذا اليوم قبل ثلاث سنوات، ومعهم أخذوا كل ما تبقى من إنسانية هذا الكون، بصمتها وتواطئها مع الطاغية، لحس أوباما خطه الأحمر وبنى جداراً سميكاً لحماية المجرم، ظن البعض أنه أفلح في استلال المدية الكيماوية من يدي المجرم حين سلخه سلاحه كما أعلن ، لكن ثبت حتى الآن أن المجرم استخدم المدية لأكثر من مائة مرة دون أن يلام أو يعاقب، ولا يزال العالم يشكك باستخدامه الكيماوي، بل ويطالب أن يظل رئيساً يتعامل معه، فالطيور على أشكالها تحكم وتتعاون...
الشام التي هتفت منذ أول يوم لن نركع لغير الله، ومالنا غيرك يا ألله، يخطئ من يظن أنها ستركع لطاغية قاصر، أو لمجتمع دولي متواطئ معه، فالشعب السوري قال كلمته، ولن يعود عنها، وهو مصر على العيش بحرية فوق الأرض أو تحتها، فكلاهما سيان بالنسبة له، ما دام عدد أقاربه وأحبائه تحتها أصبح أكثر ممن هم فوقها..
لم يعد لديه ما يخسره دنيوياً وقد فقد الأحبة، وفقد البيوت بعد تدميرها، وفقد كل ما يملك، لكن ظل شيئ واحداً لم يستطيعوا انتزاعه من صدره إنها الحرية، والإصرار عليها، فذاك خارج مُكنتهم، ولن يستطيعوا إليها سبيلاً، الشيء الوحيد الذي يمكن أن يُسعد من رحلوا في مجزرة الكيماوي بالغوطة وغيرها، هو إصرار الثوار على مواصلة طريق الحرية، طريق من قدم روحه من أجلها، مع غصّة بكل تأكيد للفرقة والتشرذم الحاصل بالساحة، ولكن انتصارات حلب والوعد بفتح جبهات بحماة ودرعا كلها سلوى لمن بقي على هذا الطريق...
همسة أخيرة في آذان أقارب وأحباب من رحل في مجزرة الغوطة الكيماوية، لا تحزنوا، ولا تيئسوا فإن الله تبارك وتعالى أبقى للجزار وسدنته ما يسوؤهم، ذكرى الإبادة التي ستذكره باللعنة والإجرام مع كل عام، ليصطف مع القتلة والمجرمين من والده وغيره بطل مجزرة حماة وتدمر وجسر الشغور وحلب، وغيرها، وبطل مجزرة تل الزعتر والكرنتينا والبدواي في لبنان، أما أنتم وأبناؤكم وأحبابكم فسيخلد ذكركم في الدنيا والآخرة، ويكفيكم فخراً وعزاً أن أبناءكم كانوا جسر الحرية للشام ولمن وراء الشام..