تركيا وروسيا: صداقة المستقبل وعداء الماضي؟!
25 ذو الحجه 1437
أحمد محمود عجاج

في خضم الصراع التي تشهده منطقة الشرق الاوسط وبالتحديد على خلفية الازمة السورية، وتفتت العراق، وانفراط عقد النظام العربي الذي تأسس بعد الحرب العالمية الثانية، تبرز تركيا وايران كلاعبين اساسيين في خريطة المنطقة. وليس من المبالغة القول ان تلك الدولتين هما اساسيتان في تقرير شكل الخارطة المستقبلية للمنطقة؛ لكنهما بقدر ما هما مهمتان تبقيان عاجزتين عن الاستفراد بالمنطقة، وخاضعتين لمستلزمات القوى الكبرى وبالتحديد الولايات المتحدة وروسيا. وتبدو تركيا في وضع اصعب من ايران وبالتحديد في علاقتها المشوشة مع امريكا والاتحاد الاوروبي من جهة، وفي علاقتها المتأزمة ولربما العدائية من جهة اخرى مع روسيا. ولعل المطالع للتاريخ، ولما كتب مؤخرا، واذكر بالتحديد كتاب جديد للكاتب البريطاني اوجين روغن الصادر حديثا بعنوان سقوط العثمانيين: الحرب الكبرى في الشرق الاوسط 1914-1920، يتبين له بموضوعية مدى حساسية العلاقة مع الروس، وكذلك مدى عدائها لتركيا، وكذلك رغبتها بسلخ اراض منها. ولا شك فإن وجود بوتين في السلطة، واعتماده ثلاثية الشعور القومي، والديني الارثوذكسسي، والمجد التاريخي، يبرز مدى الخطر الذي تواجهه تركيا وبالتحديد مع قيادتها ذات الطابع الاسلامي.

 

إن البروز الروسي المستند الى روح الكنيسة الارذوكسية، والدفق القومي، وما يقابله من روح اسلامية، وشعور مظلومية تركية، هو برميل بارود جاهز للانفجار عند اول شرارة! ويتبين من المراجعة التاريخية كم كانت تركيا تحاول في الماضي، ولا تزال، التخلص من عقدة التآمر الروسي على السلطنة العثمانية؛ فروسيا كانت الدولة الطامعة جدا، واكثر من غيرها من دول اوروبا، في حيازة اراض عثمانية، وطامعة في فرط عقد السلطنة، والاستيلاء عليها؛ وقد عجزت روسيا خلال تلك الحقبات عن تحقيق امنيتها بالكامل بسبب صمود السلطنة، رغم ضعفها، وبسبب خوف الدول الاوروبية من الاطماع الروسية، وبالتالي ساهمت تلك الدول نزولا عند مصالحها في حماية السلطنة من الانفراط مبكرا. وكم كان صعبا على الثلاثي الطوراني ( جمال باشا وانور باشا وطلعت باشا) التخلص من تآمر الروس على اراضي الدولة العثمانية؛ الروس كانوا دائما مهووسين باستعادة اسطنبول لأنها رمز الكنيسة الارثوذكسية، والسيطرة على البحر الاسود وشرق الاناضول حيث توجد كثافة نسبية من الارمن. إن تحالف السلطنة مع الالمان لم يكن خيارا طوعيا بل كان اضطراريا لأن فرنسا وبريطانيا العظمى رفضتا التحالف معها وكانتا تدركان بالوقت ذاته أطماع روسيا ولا تريدان المواجهة معها علاوة على ان لهما اطماعا في اراضي السلطنة كما تبين لاحقا في اتفاقية سايكس بيكو.

 

لا شك ان الطورانيين الضباط، الذين حاولوا فك السلطنة عن ماضيها، وتأسيس دولة تركية حديثة، لكن من دون التخلي عن الولايات التابعة لها، كانوا يفكرون بمنطق امبرطوري وليس وفق شعار الاخوة الاسلامية، وكانوا يرفضون فكرة الديمقراطية التي تطال بقية الشعوب التابعة لهم؛ لهذا فإنهم وقعوا في مشكلة عويصة: هم طورانيون لكنهم يريدون المسلمين ان يكونوا معهم؛ وهم طورانيون ويريدون بقية الاعراق ان تكون في صفهم مثل الارمن والاكراد! لكن في النهاية وجدوا انفسهم يخسرون الاخوة الاسلامية، ويخسرون تأييد الاعراق حيث برز الارمن رأس حربة تستخدمهم روسيا من اجل الطعن بصدر السلطنة العثمانية. لقد استخدم الروس الارمن لتحقيق اطماعهم في شرق الاناضول وكان  التعاون الارمني مع الروسي سببا فيما تعرضوا له لاحقا من اضطهاد؛ كما ان الثلاثي الطوراني وخوفه من مطالب العرب بالاستقلال الذاتي داخل الامبرطورية التركية كان ايضا سببا في قمع حركات الاستقلال العربية مثل جمعية الفتاة العربية وما تلاه من مؤتمر عقدته في باريس وحضره مندوبون من كل المناطق العربية، وكذلك من الارمن. وهنا لا بد من الاستدراك والاعتراف ان الخطأ من جانب المندوبين العرب انهم في المؤتمر العربي في باريس نادوا بإعطاء الارمن استقلالهم الذاتي ودونما فهم وادراك لأطماع الروس واستخدامهم لتفتيت السلطنة.

 

هذا الموقف من حركات التحرر العربي كان سببا في خسارة العرب والاتراك معا كما تبين بعد الحرب العالمية الثانية. العرب لم يكونوا كما تبين في مؤتمر باريس يريدون الانفصال التام عن السلطنة بل كانوا يطالبون بالمساواة واعتماد العربية مع التركية لغة رسمية وقيام اتحاد يشبه الكانتون السويسري؛ لكن الاتراك بسبب تجربتهم في شرق اوروبا واستخدام روسيا الاقليات ومطالب الاستقلال الذاتي دفعتهم الى النظر بريبة للعرب. إن سوء الظن وعدم تقدير العواقب وتجاهل دراسة كل المعطيات دائما تؤدي الى نتائج كارثية. ولهذا فإن بروز تركيا مؤخرا ولعبها دورا حيويا في المنطقة، وتدخلها في خارطتها، ولكن هذه المرة مدفوعة لحد كبير بدافع اسلامي، وانتماء مذهبي سني، يجعلها مجددا في مربع سوء الظن والفهم؛ وهذا لا بد من مواجهته لأن العواقب ستكون كارثية على العرب والاتراك.

 

تركيا اليوم غير تركيا الامس، وهي الان عليها ان تعي انها خط تصادمي مع عدوها التاريخي روسيا التي تخشى كل الخشية من تجدد هذه الروح الاسلامية ومعها النزعة الى إنشاء مناطق نفوذ على غرار ما كان سائدا في الماضي. إن روسيا تخشى كل الخشية من التمدد التركي سواء كان هذا التمدد عرقيا او اسلاميا لأن ذلك سيجعلها اكثر قربا من عمقها الاستراتيجي ويهدد كيانها المحمى بما يسمى الجوار القريب. وتكمن فكرة الجوار القريب بأن موسكو منطقة مسطحة ومن السهل الانقضاض عليها وقد فعلها العثمانيون في الماضي والفرنسيون. وبسبب هذا التهديد قرر الروسي انه لا بد من انشاء سور من الدول مجاورة مؤيدا لموسكو يقيها من اي انقضاض عليها؛ وهذا الجوار يجب ان يبقى دائما في المدار الروسي واية محاولة لإخراجه تعتبرها موسكو حربا مباشرة عليها. وهذا ما يجعل روسيا في رأيي معارضة للتمدد التركي ولو كان محدودا في سوريا، مخافة ان يكون شرارة لإنطلاقات جديدة نحو الجوار الروسي. فروسيا ترى ان وجود تركيا القوي يهدد نفوذها في البحر الاسود والبلقان والقوقاز المليئ بالشعوب المتعاطفة مع الشعب التركي دينيا او عرقيا.

 

هذا الواقع لا بد  للقيادة التركية من اخذه بالاعتبار عند النظر الى العلاقة مع موسكو؛ فإردوغان وانفتاحه على روسيا مؤخرا، وتقديمه اعتذارا لها، يطرح تساؤلات عدة؛ فهو إما انه يحاول ان يعاكس التاريخ بإنفتاحه وتعاونه مع موسكو، او انه مجبر بحكم الواقع بهدف الاستدارة ومنع الامريكان من تهديد الكيان التركي عبر استخدام الورقة الكردية. لكن على اردوغان ان يعي ان هذه الاستدارة تستدعي منه ومن القيادة التركية التفكر مجددا بمواعظ التاريخ وبالتحديد حقيقة الروس، وكذلك استنهاض بوتين للعامل الديني والقومي!

 

ولا بد كذلك للعرب وبالتحديد العروبيين او ما تبقى منهم التفكر بعمق ان الابتعاد عن الدين، وعن تركيا، لا يوفر لهم حماية بل سيكشفهم، ويعريهم، ويسلبهم قوتهم؛ فروسيا والغرب يتصرفون اليوم بمنطقتنا بنفس الاطماع والهواجس، ونحن نتصرف في تلك المواجهة بنفس التكتيك الذي فتتنا بعد الحرب العالمية الاولى ثم الثانية؛ واشد ما اخشاه هو ان نكون ضحية مرة اخرى!

 

 المصدر/ شؤون الأمة