لن تكون الشعوب الساعية للحرية والتحرر من قيود الاستعمار، بكل أشكاله العسكرية والسياسية والوصاية الداخلية أو الخارجية، في معزل عن التحديات ومواجهة أعدائها، أي إنها ليست في حالة خيار بقدر ما هي مضطرة إلى الدفاع عن نفسها، وشق طريق الحرية مهما كانت الصعاب، سواء ضد أعدائها الصريحين أو اعدائها المقنّعين، سواء كانوا دولاً أو تنظيمات أو أحزاباً أو أفراداً، فكل من يصر ويعمل على بقاء شعب ما في حالة ضعف وتخلف، أو تابعاً لإرادة لا تمثله فإن هذه الإرادة الغريبة عدوة لهذا الشعب؛ لأنه يحرمه من حريته، مثل من كان يستعبد البشر، فيحرمهم من حقوقهم الإنسانية. وكذلك، من يصرون على إبقاء الشعوب ذليلة وخانعة وتابعة لغيرها، فالأصل في الشعوب أن تكون حرة كما يولد الناس أحراراً، ولا ينبغي لشعب أن يقبل العبودية لشعب آخر أو لدولة أخرى، وكذلك حقه في تقرير مصيره بنفسه وبناء مستقبله، فعصر عبودية الشعوب انتهى، مهما كانت الحجج، ومهما كانت الشعارات التخويفية أو الإرهابية، ومهما كانت الأساليب والعبارات الدبلوماسية التي تعمل لإخضاع الشعوب بأسماء وشعارات ومصطلحات رائجة ولكنها تستخدم ضد الشعوب، مثل الديمقراطية والعولمة والحرية، التي تستخدم أدوات لاحتلال الدول وكسر إرادة الشعوب بدل تحريرها، كما حصل في العراق منذ عام 2003.
لقد تحدث بعض المفكرين الغربيين كيف يمكن التحكم في الشعوب، فعدوا منها عشر خطوات استراتيجية للتحكم في الشعوب. يمكن الحديث عن خطوات مقابلة تعتبر خطوات استراتيجية أمام الشعوب الحرة في الحفاظ على ذاتها واستقلالها وقوتها، فما ذكره الفيلسوف نعوم تشومسكي كيف يمكن التحكم في الشعوب وذكر منها: الأول: الإلهاء، والثاني: خلق المشكلة وإيجاد الحل، والثالث: التدرج، والرابع: التأجيل ، والخامس: مخاطبة العامة كأنهم "أطفال"، والسادس: استخدام الجانب العاطفي بدلاً من الجانب التأملي، والسابع: إبقاء العامة في حالة من الجهل والغباء، والثامن: تشجيع العامة على الرضا بجهلهم، والتاسع: تحويل التمرد إلى شعور ذاتي بالذنب، والعاشر: معرفة الأشخاص أكثر مما يعرفون أنفسهم.
فإذا صحت هذه الأفكار من استرتيجيات نعوم تشومسكي في التحكم في الشعوب، أو أنه ذكرها كخطوات اتبعتها الدول الاستعمارية في التحكم في الشعوب، فإن التفكير في مواجهتها أو وضع استراتيجيات مقابلة لها يمكن أن يؤدي إلى حماية الشعوب من التحكم فيها على أقل تقدير ، سواء بعكسها بصورة مباشرة، أو بعكسها بصورة إبداعية تؤدي إلى حرية الشعوب بدل التحكم فيها، بما يناسب كل شعب أو قومية او دولة، فالشعوب هي التي تقرر إن كانت حرة أو مستعبدة، وليس أعداؤها من يقررون ذلك، فالغرب مثلاً يعتبر الشعوب حرة إذا كانت خاضعة أو مؤمنة بثقافته للحياة أو ملتزماً بمعايير العقلية الرأسمالية الغربية معياراً لدولته، وإلا فإن تلك الدولة تعتبر متأخرة او رجعية أو أيديولوجية أو غير علمانية أو مشرقية متخلفة، من وجهة نظره أيضاً، هذا ما نقرأه في نظرة أمريكا والدول الغربية لتركيا، فهي تحكم على الدولة التركية إن كانت ناهضة ومتحضرة إذا كانت خاضعة للأوامر السياسية والعسكرية الغربية، ودون مساءلة عن مصالحها الخاصة، وإلا فهي دولة تتراجع إلى المشرق وتغادر التقدم والتحضر الغربي، فهل هذا صحيح؟
تحدثت بعض المقالات والأخبار عن وجهات نظر أمريكية عن وضع خطط لإيقاف التقدم الذي نجح حزب العدالة والتنمية بزعامة الرئيس أردوغان في تحقيقه خلال الخمسة عشر عاماً السابقة، فتركيا أصبحت في نظر أمريكا وبعض الدول الغربية دولة مشرقية وغير غربية، على الرغم من كل ما أبرمته مع أمريكا والاتحاد الأوروبي من اتفاقيات دولية طوال ثلاثة وتسعين عاماً، أي منذ تأسيس الجمهورية التركية عام 1923 وحتى عام 2016، ولعل النقطة الفاصلة لهذا الانقلاب في النظرة الغربية هي إفشال الشعب التركي للانقلاب العسكري في يوليو/تموز الماضي، الذي يبدو أنه كان انقلاباً غربياً بالأوصاف والأهداف كاملة، وكأن الانقلاب العسكري كان الخنجر المسموم الأخير الذي أرادوا منه التخلص من حزب العدالة والتنمية، ولكن الشعب التركي كسر هذا الخنجر المسموم بصدره العاري، ودافع عن نفسه وحقه في حماية الحزب والحكومة والرئيس الذي بنى النجاح التركي الحديث والمعاصر، ولذلك أخذت الدعاية الغربية توجه أسهمها المسمومة من بعيد ضد الرئيس أردوغان وضد الشعب التركي، من خلال حملة إعلامية سلبية تتحدث عن تركيا ورئيسها وشعبها بكل كراهية وحقد، كأنهم يتكلمون عن دولة معادية وليس عن دولة صديقة وحليفة للغرب في "الناتو" والاتحاد الأوروبي.
إن هذه المواقف الغربية لم تتغير طوال القرن الماضي وقبله، إلا في درجات نقدها للحكومات التركية، وبالأخص حكومات التمثيل الشعبي الأقوى، بدءاً من حكومات عدنان مندريس في الخمسينات إلى حكومات تورغت أوزال في الثمانينات ونجم الدين أربكان في التسعينات ورجب طيب أردوغان، فكل الحكومات التي كانت تمثل إرادة الشعب التركي أكثر ، كانت تتهم بأنها حكومات غير ديمقراطية كثيراً، وكانت توصف بأنها ديكتاتورية وغيرها، علماً بأنها كانت منتخبة من الشعب التركي نفسه، في انتخابات كانت وفود أمريكا والاتحاد الأوروبي تشرف عليها وتراقبها، أي إنها كانت حكومات ديمقراطية بالمعايير الغربية، ولكنها لم تكن ديمقراطية بنظر الغرب؛ لأنها كانت تلتزم بالوفاء للشعب التركي الذي انتخبها.
لذلك، فإن تركيا لن تستطيع التغلب على هذه المشكلة مع الغرب إلا بتولي الشعب التركي وكل الشعوب الحرة الرد على الأباطيل الغربية ضد حكوماتها، فلا تمكّنها من نشر دعاية باطلة ضد حكوماتها الشرعية المنتخبة ديمقراطياً، وإذا نشرت الدول الغربية دعاية كاذبة ضد حكومتها أو تؤثر على حكومتها، فلا تلتفت إليها في سلوكها الاجتماعي والاقتصادي والسياسي وغيره، فمثلاً ما قامت به السفارة الأمريكية في أنقرة الأسبوع الماضي بالطلب إلى عائلات موظفيها في تركيا بمغادرة تركيا لأسباب أمنية، ينبغي للشعب التركي مواجهته بالتجاهل وعدم التأثر به، وكأنه لم يسمع به إطلاقاً، وإلا فإن الشعب نفسه سوف يسهم في تحقيق أهداف ذلك الإعلان والإعلام المشبوه.
وبعض وسائل الإعلام الغربية لا تخفي بوقاحة أن هدفها إسقاط الرئيس أردوغان، وتدعي أنها تهدف إلى حماية العلمانية المترسخة في تركيا والتي تعرضت للضعف في عهد أردوغان وحزب العدالة والتنمية، ولكن السؤال المحق هو: من كلف تلك الصحف والأقلام الغربية بالدفاع عن علمانية الدولة التركية؟ أليس الشعب التركي هو من يقرر ذلك في الانتخابات البلدية والبرلمانية والرئاسية؟ وما دام الشعب التركي بنفسه هو من يقرر ذلك، فهل الشعب التركي قاصر حتى تقرر له الشعوب الأوروبية أو غيرها هويته وحاضره ومستقبله، أو أن تقرر له نوع علمانيته وهويته الحضارية، ولماذا ينبغي أن تبقى مسألة هوية الشعب التركي محل حديث في الغرب لنحو قرن من الزمان، ولم يتم تناول هوية شعب أوروبي آخر؟
المصدر/ الخليج أون لاين