إن سقوط مدينة حلب بعد تدميرها تحت شعار حماية السيادة السورية ممثلة في بشار الأسد، ومحاربة الإرهاب، وتغاضي الغرب عن هذه المجازر المرتكبة، علاوة على عجز العرب عن وقف المذبحة وتضامن بعضهم مع نظام الأسد، توحي بأن تسوية متفق عليها في طور النضوج.
هذه التسوية قد تكون تركية – روسية، لكنها تسوية هشة، يبـدو فيها الطـرف التـركي الأضعف، وبالتالي لن تكون بقدر طموحات الشعب السوري، بل، ربما، أقل من المتوقع بكثير.
هذه التسوية، وإن تمت، لن يكتب لها النجاح لأن الساحة السورية أصبحت ميدان عراك بين دول كثيرة، وبين تنظيمات لها فروعها المحلية والخارجية.
وللتدليل على عمق هذا التعقيد فقد سيطر تنظيم داعش مؤخرا على مدينة تدمر، وهذا التنظيم المطوّق في العراق والمحاصر في مدينة الباب، قادر، كما يبدو، على هزيمة قوات النظام ومعها قوات الإيرانيين والروس، فهل هو حقا قادر بالفعل على ذلك؟
إن الجواب على هذا السؤال لا يمكن اختصاره فقط في نظرية المؤامرة (ونحن لا ننكرها) ولا في نظرية الفراغ التي تقول إن الروس والإيرانيين حشدوا قواتهم في الساحل وحلب ظنا أن لا خطر عليهم من داعش؛ فتفاجأوا بشنّ التنظيم حربا خاطفة على قواتهم والسيطرة على المدينة بما فيها من أسلحة وذخائر وعتاد.
ومما لا شك فيه أن دخول داعش على هذا الخط، سواء بالتنسيق مع النظام أو بفعل قوته، يؤكد أن الحل في سوريا لم يزل بعيدا، وأن النظام غير قادر على سد النقص في الرجال والعتاد، وأن إيران وروسيا لم يعد أمامهما إلا زيادة التدخل لتوطيد رؤيتهما المتناقضة في سوريا! تماما كما حدث للأميركان الذين دخلوا في فيتنام على أمل الانتهاء بسرعة فمكثوا مجبرين واضطروا للرحيل مرغمين.
لكن ما يحدث في سوريا يبدو مختلفا عن فيتنام لأن روسيا وإيران تتصرفان بموافقة أميركية، وعجز أوروبي، وتردد عربي، وانشغال تركي، إن لم يكن تخبّطا في كيفية مواجهة الخطر الكردي وحماية الاقتصاد.
هذا يعني أن منسوب النظام السوري من القوة له رافد مستمر، بينما منسوب الدعم للمعارضة السورية المسلحة متقطع ومرهون بمواقف دول إقليمية؛ وهذا يُضعف المقاومة المسلحة في سوريا، وقد شاهدنا ذلك مؤخرا بأم العين في حلب.
إذن روسيا وإيران ستكون لديهما القوة والوسيلة لمتابعة تصفية الثورة، وبعدها تكون أوراق المنتصر أقوى في المفاوضات إذا ما كان ثمة مؤتمر يعقد لحل ما يسمى زورا “سلميا”.
فالتفاوض هو عمليا تكريس للانتصار على الأرض، ولذلك فإن ظهور داعش وزيادة منسوب التوحش الذي يمارسه النظام، وتوسع دائرة الصمت الدولي، كلها عوامل ستتضاعف تداعياتها وستزيد من بيئة التطرف، وسيحصل تنظيم داعش على مصداقية جديدة.
ألم يقل داعش إن الحرب هي ضد المسلمين السنة؟ ألا يثبت الواقع مقولته؟ ألم يقل إن أميركا ستبيع المعارضة وها هي تترك المعارضة تسحق ومعها الآلاف من الأبرياء. ألم تجتمع أمم الأرض على داعـش وهـا هو ينتصر في تدمر؟ كل ذلك يعطي زخما للتنظيم المتطرف الـذي لا يقـل وحشية عـن الأسـد، مع الاعتراف بأن عنف الأسد وحلفائه فاقه بكثير.
الثابت أن داعش يستمد بقاءه من تطرف النظام وداعميه وكذلك من كذب الغرب وتباكيه؛ وبهـذا يصبح داعش عبئا ثقيلا آخر على كاهل الشعب السوري، فوق عبء الأسد الذي لا يطاق.
ستقول روسيا، في ظل هذا الواقع، وبعد تصفيتها للمعارضة المعتدلة، انظروا إلى داعش المستحوذ على أراض سورية؟ هل تفضلونه على الأسد؟ سيكون الجواب قويا ومزلزلا: لن نقبل وسنحاربه؛ وسينضم الجميع لمقاتلة داعش، وبعد التصفية، تبدأ عملية التسوية في سوريا، في ظل بقاء الأسد وبلا أي معارضة حقيقية.
تبدأ عملية التسوية والشعب السوري بين مشرد وقتيل ومسجون ومعاق. تبدأ وسط مدن مدمرة وقرى محترقة، وسيتفق الجميع في التسوية على أن الأولوية هي للمسألة الإنسانية، إذ أنه لا يمكن تحقيق الاستقرار ما لم تبدأ عملية البناء والإعمار.
سيعقد مؤتمر دولي لجمع التبرعات وسيساهم العرب مرغمين، وستتكرس سلطة الأسد بحكم الواقع الاضطراري، وتدريجيا تعود سوريا إلى عصر الاستبداد مجددا.
ثمة من يقول من محللي العرب إن الأسد لا يمكنه حكم سوريا، بعد كل ما جرى، وإنه إن حكم فحكمه مرهون لروسيا وإيران، لكن هذا ليس جديدا، وروسيا وإيران بحاجة إلى الأسد، بقدر حاجته لهما، فالعملية تبادلية، وأجزم بأن اليد الطولى مع الوقت للأسد إذا عرف كيف يتصرف، واستطاع أن يفرض سيطرته.
وبالطبع سيتناسى الغرب جرائم الأسد، وسنسمع الكثير مـن العبارات الـداعية للواقعية السيـاسية، وقد بدأنا نسمع الكثير منها هذه الأيام. ويبقى السؤال: هل يقبل الشعب السوري بذلك؟ الجواب ليس صعبا، إذا ما أخذنا حِكَم التاريخ: لن يقبل أبدا، ويجب عليه، لتجنب هذه الحقيقة المرة، الصمود، وعلى المعارضة السياسية ألا ترضخ مهما كانت الضغوط، وأن تعرف كيف تمارس السياسة، وعليها أن تؤمن بـأن المستقبل يصنعه الصمود والوحدة وتقديم مشروع كامل لسوريا المستقبل.
المصدر/ صحيفة العرب اللندنية