هموم حول بحوث الترقية
28 ربيع الثاني 1438
د. عمر بن عبد الله المقبل

أضحت بحوثُ الترقية التي يقدّمها الأستاذُ المساعد أو المشارك للانتقال إلى الدرجة التالية؛ محلّ حديثِ الوسط الأكاديمي في الآونة الأخيرة، خاصةً من الغيورين الذي يَفحصون البحوث، ويَحملون همَّ البحثِ العلميّ، والرقيّ به لخدمة العلم، حيث صارت البحوثُ الضعيفة في مبناها ومحتواها تشكّل ظاهرةً مُقلقة، فضلاً عن انتشار السرقات العلمية عند بعض الباحثين! ولستُ بهذا أفشي سراً، فالمتابع لمواقع التواصل - فضلاً عمن يمارس الفحص، أو عضوية إحدى المجلات العلمية المحكّمة - يدرك هذا بسهولة.

ومع وجود فئةٍ من الفاحصين - يمكن وصفها بالتشدد الذي لا مستند له - إلا أن الحديث في هذه الأسطر ليس موجهاً لهم، بل هو موجّه إلى من يمارسون "المنكرَ العلمي" في ضعف الفحص، والتساهل في إجازة البحوث، مما يوجب الاحتسابَ عليه من جميع الأطراف المعنيّة، وعلى رأسها: الفاحصون، وأعضاء مجالس تحرير المجلات العلمية المحكّمة.

أما الفاحصون فعليهم الحملُ الأكبر؛ فهم القنطرةُ الأولى التي تمرُّ عليها هذه البحوث، وبقدْر إحكامِ هذه القنطرة؛ ينعكس هذا على جودة البحوث، وتقليل مواضع الزلل منها، ومع يقيني أن البحثَ مسؤوليتُه في الدرجة الأولى على الباحث نفسه؛ إلا أن الفاحص ـ الذي يغار على العلم ـ لا يقبل أن يمرَّ البحثُ الهزيل على حسابه، دون فحصٍ دقيقٍ يراعي العدلَ والإنصافَ؛ إذْ هو شريك في أمانة النُّطق بالحكم على هذا العلم الذي حوتْه تلك الأوراق.

أقول هذا وأنا أدرك أن في البيئة الجامعية ـ ولله الحمد ـ أعداداً كبيرة ممن يغار على العلم وأهله، لكن لا يمكن التغافل عن عددٍ غير قليل من الفاحصين الذين لا يُدقّقون فيما يُسند إليهم، وإلا كيف نفسّرُ إجازة بحوثٍ فيها من الضعف والخلل ما يدركه الإنسانُ من أوّل وهلة؟! وبماذا نعلّلُ عوْدةَ بعضِ البحوث من فاحصَيْن اثنين: أحدهما لا يكتب أيّ تعليق ويجيزه للنشر، وفاحصٌ آخرُ يملؤه بملاحظات ويردّه؟!

من الممكن تفهّمُ اختلاف وجهات النظر إلى حدٍّ ما، لكن إلى هذه الدرجة فغير مقبول بتاتًا! فأين الخلل؟

لئن كنا نذمُّ التشدد في النقد، ومجافاة العدل والإنصاف، ونمقتَ العبارات المقذعة في وصف الأخطاء والأوهام؛ فإن ذمّ التساهل والتهاون أولى بذلك.. لأثَرِه الذي لا يَخفى.

وهذا التهاون والتساهل يجعلُ مهمَّة إخواننا أعضاء هيئة التحرير في المجلات العلمية كبيرة، ومسؤوليتهم عظيمة؛ في:

-                   ضرورة التأكد من مستوى البحوث.

-                   وفحصِ ملاحظات المحكّمين.

-                   وتعديلِ الباحث لملاحظاتهم.

-                   ورفعِ سقفِ القبول في المجلة.

ففي هذا صيانةٌ للعلم وأهله، ورقيّ بمستوى تلك البحوث.

ولا يخفى أن قبول البحث الضعيف يعود ضررُه على العملية التعليمية برُمّتها، فهذا الباحث قدّم بحثَه ليترقّى للدرجة التالية، وهذا يعني أن مساحةَ صلاحياته ستتسع في التدريس في الدراسات العليا، والإشرافِ على الرسائل، ثُمَّ تحكيم بحوث الترقية، فكيف يُرجى من مثل هذا الباحث الذي ظهر ضعفُه في بحوثه أن يخرّجَ أجيالاً قويَّة في العلم؟!

أمّا سُراق البحوث، فإن الغَيرة على العلم تقتضي الحزمَ والصرامةَ معهم، ولئن كان أهلُ الحديث ـ فيما مضى ـ يعدّون سارق الحديث في جملة الكذابين والهلْكى، ودُوّنت أسماؤهم في كُتب الضعفاء والمتروكين، نقرؤها حتى يومنا هذا وإلى يوم القيامة ـ صيانةً للسنة، وذبّا عنها ـ فليكن هناك حزمٌ وصرامة في ردْع هؤلاء السارقين؛ ليكون الردعُ زاجراً لمن تُسوّل له نفسُه السرقةَ مستقبلا.

ومن ذلك:

-                   توظيف كل السبل التقنية ـ وغيرها ـ لكشف السرقات.

-                   ووضعُ قائمةٍ تتبادلها الجامعات والمجلاتُ العلمية لمن يثبت بالدليل القاطع سرقتهم لبحوث غيرهم، يَسبقُ ذلك وضع ضوابط مُحَدِّدةٍ لمعنى "السرقة العلمية"، ومتى يستحق الباحث هذا الوصف؟ منعاً للإفراط والتفريط، وقطع الطريق على الاجتهادات الفردية.

ومن واقع تجربة لا بأس بها، أستطيع القول أن هناك مؤشراً خطيراً يقول بلغة واضحة:

أدركوا بحوث الترقية!

وهذا يوجِب على الجميع التعاون لإيقاف هذا المؤشر من الانحدار، حتى لا نُصاب بأعداد من الباحثين ترقّوا على أكتاف بحوث هزيلة، سيظهر أثرُهم على من تحت أيديهم!

إنني لا أدعو للتشديد، بل للاعتدال الذي يخفِّف من هذا التردي الذي بدَتْ آثارهُ، ولولا خشية أن يُستدل ببعض الأمثلة على أصحابها لذكرتُ شيئاً من النماذج يَندى له جبينُ العلم!

وما سبق ذكره لا يُعفي جامعاتنا من مسؤوليتها أمام الله، ثم أمام العلم والتاريخ، وعليها أن تُوْلي هذا الموضوع أهميّةً تليق به، وما دام أن جامعاتنا لا تُصنَّف بأنها جامعات بحثية بالمعنى العلمي الدقيق؛ فلتتحِ الفرصةَ للترقية بغير البحوث المعهودة، لعلّ هذا مما يقلّل من هذا المستوى المتردي الذي أضحى حديث الغيورين على البحث العلمي بمختلف تخصصاته.

ختاماً.. إذا لم يكن الحامل على البحث العلمي ـ وفي التخصصات الشرعية بالذات ـ الديانةُ، والرغبةُ في الإفادة؛ فلا يتعنّ الباحث! فإن التَّبِعةَ ثقيلة في الدنيا قبل الآخرة، وإذا لم يتدثّر طالبُ العلم بالأمانة العلمية؛ فليبكِ على نفسه، وليعرض النصوص الشرعيةَ الواردةَ في الأمانة على قلبه، وليتذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم: "المتشبع بما لم يعط، كلابس ثوبي زور"([1])، وليضع هذه الآية نصب عينيه: ﴿فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ﴾ [الرعد: 17].
___________________
([1]) متفق عليه: البخاري ح(5215)، مسلم ح(2129).

 

* المصدر: الموقع الرسمي للأستاذ الدكتور عمر بن عبد الله المقبل