أبجديات فهم المشهد الليبي
6 جمادى الأول 1438
علاء فاروق

طلب مني كثيرون كتابة مقال مختصر لتوضيح أكثر للمشهد الليبي، فجاءت هذه الفكرة لأن الأزمة الليبية من أكثر أزمات الحاضر تعقيدا وتشابكا، حتى على أبنائها، كون أطراف نزاعها في تغير مستمر وتحركات حثيثة لإثبات ضبابية المشهد وخروجه عن السيطرة من أجل مراواغات أكثر ومن ثم تحقيق مصالح شخصية.

 

 

وفي محاولة لفهم الملف الليبي يجب تسليط الضوء على الأطراف المتنازعة سياسيا وعسكريا، ومن يدعم كل طرف، وتداعيات ذلك على الأزمة الراهنة، وهل من حلول تلوح في الأفق القريب:

 

 

سياسيا:

بدأت الأزمة السياسية المعلنة فعليا، في تاريخ 6 تشرين الثاني/ نوفمبر 2014، عندما قضت الدائرة الدستورية بالمحكمة العليا في ليبيا بعدم دستورية مقترحات "لجنة فبراير" وكل ما ترتب عنها، ما يعني "ضمنيا" حل مجلس النواب المنتخب، وكل المؤسسات المنبثقة عنه، وهو ما نفاه المجلس واعتبر الحكم "مسيسا".

 

 

بعد هذا الحكم المفاجئ والصادم، بدأ صراع "الشرعية" بين البرلمان الليبي وبين الجسم التشريعي السابق له وهو المؤتمر الوطني العام "المنتهية ولايته"، والذي اعتبر قرار الحل هو إذن له بالعودة للمشهد، ليعود للانعقاد من جديد في العاصمة طرابلس، معتبرا نفسه السلطة التشريعية الوحيدة في البلاد، وبدأفي تشكيل حكومات وإقالتها.

 

 

وفي مدينة طبرق بالشرق الليبي، عقد مجلس النواب جلساته، رافضا حكم المحكمة "المسيس" من وجهة نظره، وبدأ أيضا في استكمال عقد الجلسات وإصدار التشريعات وإقرار حكومة تابعة له، وكذلك قوات مسلحة.

 

 

وهكذا، ظل تنازع الشرعية والتلاسن بين "الجسمين" القائمين بالفعل، هما سيدا الموقف، وتأزمت المشكلة أكثر، لتبدأ بعد ذلك جلسات حوار وطني (كانت جولات قد تمت قبل قرار المحكمة بين النواب المقاطعين لجلسات البرلمان والنواب الحاضرين)، ينضم إليها تباعا لجان ممثلة لطرفي الصراع، وظلت الدائرة تكبر حتى شملت أحزاب ومجموعات من منظمات المجتمع المدني وشخصيات عامة من أجل الوصول إلى "اتفاق" أو "توافق" لحلحلة الملف الشائك.

 

 

وبعد جولات عدة في دول مختلفة، عربية وغربية، توصلت الأطراف إلى اتفاق سياسي ليبي؛ يكون إطار لحل أي أزمة بعدما يقره البرلمان وتوقع عليه أطراف اللجان المشكلة من المؤتمر الوطني "في الغرب الليبي" ومن البرلمان "الشرق الليبي"، وتم توقيعه بالفعل في مدينة الصخيرات المغربية في 17 كانون الأول/ ديسمبر 2015.

 

 

وكانت جولات الحوار الليبي، قد بدأت في مدينة "غدامس" الليبية، 29 أيلول/ سبتمبر 2014 واستمرت حتى إعلان التشكيل المقترح للمجلس الرئاسي لحكومة الوفاق الوطني بقيادة عضو مجلس النواب عن طرابلس، فائز السراج، التي أعلنها المبعوث الأممي السابق إلى ليبيا برناردينو ليون في 8 تشرين الأول/ أكتوبر 2015.

 

 

بعد توقيع الاتفاق الذي شهد احتفالات داخلية وخارجية، بدأت مسيرة البحث عن شرعية الاتفاق وإقراره من قبل مجلس النواب المنعقد في طبرق، ومن ثم منح الثقة للحكومة المنبثقة عن الاتفاق، وهو ما تلكأ فيه المجلس حتى الآن، ورفض إقرار الاتفاق أو منح الحكومة الثقة، ومن ثم تجاوز المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق المنبثق عن الاتفاق، ثقة البرلمان، وبدأ في ممارسة نشاطاته واتخاذ قرارات وإقرار ميزانيات، وتأزم المشهد من جديد، ولا زال التناحر قائما..

 

 

عسكريا:

   المشهد العسكري في الداخل الليبي أكثر تشرذما وانقساما واقتتالا من المشهد السياسي. فالأخير يمكن حله بالتفاوض وطاولات الحوار، لكن الأول هو الأصعب لأن السلاح هو المسيطر وصوته هو الأعلى، ولا تستطيع الجزم بمن الأقوى "وهذه حقيقة يقرها الليبيون بأنفسهم".

 

 

وبعيدا عن أزمة المليشيات المسلحة التي انتشرت بعد أحداث "فبراير 2011"، إلا أن المشهد العسكري – وباختصار شديد - يتلخص بين معسكررين وثالث ظل متفرجا حتى وقت قريب:

 

 

الأول: تمثله القوات المسلحة التابعة للمؤتمر الوطني العام وحكومته، والتابعة بعد ذلك للمجلس الرئاسي وحكومته، ومن يدور في فلكها وتتواجد في المنطقة الغربية في ليبيا، ولها رئاسة أركان وكتائب ومجالس عسكرية، وخاضت حروبا عدة، كان آخرها "حرب تحرير مدينة سرت" من مقاتلي تنظيم "داعش" الإرهابي، لكن هذه المجموعات يوجد تناحر بينها على السلطة والنفوذ، وحدثت عدة مناوشات بين هذه الكتائب في العاصمة طرابلس، لكنها حتى الآن تشكل كيانا واحدا للغرب الليبي.

 

 

الثاني: قوات يقودها اللواء خليفة حفتر (تم منحه رتبة فريق ثم مشير من قبل مجلس النواب)، وتتواجد أغلبها في المنطقة الشرقية، وتم ظهورها إعلاميا بشكل منظم بعدما أطلقت عملية "الكرامة" في أيار/ مايو 2014 من أجل محاربة المجموعات الإرهابية في ليبيا، ثم بعدها تكونت القوات المسلحة الليبية التابعة للبرلمان والحكومة المؤقتة ويرأسها المشير حفتر، ولها أجهزتها وأسلحتها، وهي الحاكم الفعلي في الشرق الليبي، وتقاتل بشكل أساسي مجموعات تسمى "مجلس شورى ثوار بنغازي"، وهي مجموعات مسلحة في الشرق كانت تقوم بحراسة بعض البوابات والمنافذ ورفضت تسليم مقراتها لقوات "الكرامة"، ولا تزال الحرب دائرة بين الطرفين..

 

 

وطرف ثالث: هو الجنوب الليبي المنقسم بين منطقة نفوذ للقوات التابعة للمنطقة الغربية، وقوات تابعة للمشير حفتر، والأخير استطاع التقدم أكثر هناك والسيطرة، لكن لا يوجد "حسم" بلغة المؤسسة العسكرية حتى الآن.

 

 

 .. والتخوف الآن أن ينتقل التقاتل والحرب بين الغرب والشرق، أي بين قوات "المجلس الرئاسي"، وتمثلها الآن عدة مجموعات أشهرها "قوات البنيان المرصوص"، وهي المجموعة المسلحة التي هزمت "داعش سرت"، وقوات الحرس الرئاسي التي يجري تشكيلها الآن، وبين قوات حفتر والتي تمثلها قوات الصاعقة وقوات جوية ويدعمها جهاز الشرطة في الشرق الليبي، ولو حدث هذا الاقتتال فعليا ستكون النهاية للدولة الليبية كون الطرفين في حالة توازن قوى، وكل فصيل مدعوم داخليا وإقليميا ودوليا.

 

 

عودة إلى البدء، والتأكيد على أن الملف الليبي هو أشد الملفات العربية تعقيدا وتشابكا، لذا أؤكد أن ما كتب سالفا، ما هو إلا أبجديات ومفاتيح بسيطة جدا في محاولة لفهم ما يحدث، ولا بد أن يعقبها عشرات التقارير والمقالات التي توضح خريطة الصراع وأطروحات الحل والخروج من الأزمة الراهنة، والوصول إلى دولة مدنية تسيرها مؤسسات موحدة وقوية.

 

 

المصدر/ عربي 21