اليهود لا يُسَيِّرون العالَم، لكنهم بارعون في قراءة المتغيرات وحُسن توظيفها في خدمة خططهم وتطلعاتهم.
عرضوا أنفسهم على السلطان عبد الحميد الثاني، فلما طردهم توجهوا إلى بريطانيا " العظمى" فكافأتهم بوعد بلفور ووضعه موضع التنفيذ؛فلما استشعروا خلال الحرب العالمية الثانية أن نتائجها ستسفر عن تقهقر لندن وباريس وصعود نجم واشنطن وموسكو، قفزوا إلى السفينة الأمريكية، من دون أن ينسوا تأمين غطاء ملائم في الكرملين تحت ظل ستالين!!
غورباتشوف أمريكا
كانت انقسامات المجتمع خلال الانتخابات الرئاسية الأمريكية تنتهي تقليدياً فور إعلان اسم الفائز بمنصب الرئيس، ليعود الجميع بطمأنينة إلى وتيرة حياتهم السياسية والاجتماعية المعهودة.
لكن هذا لم يحدث مع دونالد ترامب، الذي يشبهه بعض مناوئيه بآخر زعيم للاتحاد السوفياتي ميخائيل غورباتشوف، الذي تفككت الإمبراطورية الشيوعية على يديه!
فالرجل مثير للانقسام العمودي منذ حملته الانتخابية وتجلى الجدل الملتهب حوله في حفل تنصيبه والمظاهرات الضخمة المناوئة له، والتي تزامنت مع الحفل، الذي اتخذ طابعاً دينياً استفزازياً ..فقد صدم كل الذين كانوا في المنصة وكثيراً من الذين آثروا الغياب من مسؤولين كبار سابقين، ومن رجال الكونغرس الذين تدنت نسبة حضورهم تدنياً لفت انتباه الجميع، ناهيك عن قلة التصفيق لكلمات الرئيس الاستفزازي.
وترامب نفسه زاد الطين بلة بالقرارات العنيفة التي اتخذها منذ الأيام الأولى لدخوله البيت الأبيض.
كان بعض الخبراء يراهنون على أن النظام الأمريكي أقوى من مزاجية ترامب، لكن قراراته المثيرة للسخط داخلياً وخارجياً تبثت أنه مُصِرٌّ على قلب قواعد اللعبة كلها.. القضاء الأمريكي فقط هو الجهة الوحيدة التي كبحت كثيراً من رعونة قذافي أمريكا وأوقفت قراراته العنصرية بمنع رعايا 6 دول عربية وإيران من دخول بلاده، حتى لو كانت لديهم رخصة إقامة سارية المفعول!!
وهو أول رئيس أمريكي يهزأ بلغة شارعية من قضاة كبار، ويتحدث عن أحدهم بصيغة احتقار لا سابقة لها ((هذا الذي يُسمى: قاضياً!!)) ..
إقالة ترامب وتنصيب نائبه!!
من المفارقات أن الذين توقعوا على أسس مدروسة وصول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض هم الذين يتوقعون أيضًا أنه سيُعزل من منصبه على أيدي الجمهوريين أنفسهم في غضون عام”.
وتوجز الغارديان البريطانية الوضع الراهن بقولها: (إن كل يوم يقضيه ترامب في منصبه يزيد الفرقة بين البيض والسود والرجال والنساء والصغار والكبار والمؤسسة العسكرية والساسة والسلطة القضائية والسلطة التنفيذية، وهناك شعور حقيقي بالرعب, ومخاوف من تقسيم الولايات المتحدة)!
وتحدث الإعلامي المصري المعروف يسري فودة عن تفاصيل هذا السيناريو المحتمل بقوله:“سيثبت ترامب أنه بالنسبة لهم خيار يصعب التحكم فيه و من ثم سيتحينون الفرصة لإزاحته لصالح نائبه رجل الظل، نائبه: مايك بينس. من هو إذاً هذا الرجل الذي يطلقون عليه “الخيار الآمن؟”.
وبينس بدأ حياته في أسرة أيرلندية كاثوليكية ديمقراطية قبل أن يتحول إلى جمهوري يميني، وهو”مسيحي متعصب ” قح”.
وأضاف أنه وقّع على مشروع قانون يسمح لأصحاب الأعمال بأن يرفضوا التعامل مع المثليين لأسباب دينية وأنه كتب مقالًا يدافع فيه عن أن التدخين لا يؤدي إلى الوفاة”.
وأوضخ أن “بينس” رصد ملايين الدولارات لدعم المراكز التي تقاوم حق المرأة الأمريكية في الإجهاض، بالإضافة لرفضه الموافقة على خطط أوباما لتخفيض حالات الاغتصاب في السجون.
واختتم تدوينته بالإشارة إلى أن “بينس” دعم مشروع قانون يسحب الحق التلقائي في الجنسية لمن يولدون في أمريكا لغير المقيمين، كما كان واحدًا من 31 حاكمًا اعترضوا على إعادة توطين السوريين في ولاياتهم.
أوربا على حافة الهاوية
قبيل الانتخابات التي فاز ترامب فيها، كتب السياسي المخضرم ووزير الخارجية الألماني الأسبق يوشكا فيشر، مقالاً أبدى فيه خشيته من فوز ترامب وصعود اليمين الشعبوي في أوربا، وخاصة بعد انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوربي!
ومضى فيشر يقول: في الواقع، كان قرار المملكة المتحدة قرارا ضد النظام الأوربي للسلام الذي يقوم على التكامل والتعاون، والسوق المشتركة وسلطة القضاء. وجاء ذلك وسط ضغوط داخلية وخارجية متزايدة على هذا النظام. داخليا، أصبحت القومية تكتسب قوة في كل الدول الأعضاء في الاتحاد الأوربي تقريبا. خارجيا، بدأت تلعب روسيا سياسية القوى العظمى وتعمل جاهدة من أجل "الاتحاد الأوروآسيوي" -كناية عن تجديد الهيمنة الروسية على أوربا الشرقية- كبديل للاتحاد الأوروبي.
وتهدد كل هذه العوامل بنية السلام للاتحاد الأوربي، وسيضعف الاتحاد بدون المملكة المتحدة، الضامن التقليدي للاستقرار. فالاتحاد الأوربي هو محور التكامل الأوربي الغربي، لذلك من الممكن أن يتسبب إضعافه في إعادة التوجه الأوربي تجاه الشرق.
ستصبح هذه النتيجة أكثر احتمالا إذا انتخب الأميركيون دونالد ترامب، الذي يحب بصورة واضحة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وسوف يتجه نحو سياسة القوة العظمى الروسية على حساب العلاقات الأوربية والأطلسية. وستكون بمثابة اتفاق "يالطا رقم 2" الذي سيخلق العداء للولايات المتحدة في أوربا بالإضافة إلى الضرر الجيوسياسي الذي يعاني منه الغرب.
وبالمثل، فإن انتصار أقصى اليمين بزعامة لوبان في الربيع المقبل سيكون دليلا على رفض فرنسا لأوربا. ونظرا لدور فرنسا باعتبارها واحدة من الركائز الأساسية المهمة للاتحاد الأوربي (جنبا إلى جنب مع ألمانيا)، فإن انتخاب لوبان على الأرجح سيعني نهاية الاتحاد نفسه.
وختم فيشر مقاله على أمل عدم اكتمال الكارثة: ويمثل البديل الشعبي لألمانيا القوميين اليمينيين الألمان -وأسوأ من ذلك- الذين يريدون العودة إلى الموقف القديم "الرجل المحايد" وإقامة علاقة أوثق مع روسيا. كما أن التعاون بين حزبي الاتحاد الديمقراطي المسيحي والبديل الشعبي لألمانيا قد يكون بمثابة خيانة لإرث أديناور وسيؤذن بنهاية الجمهورية.
نأمل أن نجتنب هذا المستقبل المأساوي، وأن تحتفظ ميركل بمنصبها لما بعد عام 2017.. فمستقبل ألمانيا وأوربا والغرب قد يعتمد على ذلك.
المخابرات الروسية في الخلفية
لم تكن واشنطن بوست تبحث عن الإثارة عندما نشرت مقالاً حاداً
قال كاتبه :إن الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب بدا من ترشيحاته لمن يتولون المناصب الوزارية المهمة كأنه يشكل حكومة معادية للولايات المتحدة...
وقام الكاتب بتحذير مواطنيه من أنه سيتم تنصيب رئيس لهم، قد قالت الاستخبارات، إن فوزه بالانتخابات جاء بمساعدة الاستخبارات الروسية. وأضاف أنه لا يمكننا تجاهل التدخل الفاضح من قبل دولة اجنبية معادية نظرًا لتصرفات ترامب التى تثير الشكوك حول شرعيته أو على أقل تقدير عدم كفاءته لتولي أعلى منصب في الولايات المتحدة...وقال إن السيناتور ميتش ماكونيل زعيم الأغلبية الجمهورية في مجلس الشيوخ، انتقد النواب الجمهوريين بسبب تجاهلهم للتدخل الروسي!!
فإذا وضعنا هذه الوقائع الصارخة في سياق واحد مع رغبة تل أبيب في منح بوتن ضوءاً أخضر للتدخل العسكري في سوريا لإنقاذ بشار الأسد ووأد ثورة الشعب السوري، والتنسيق العسكري والأمني بين الغزاة الروس والمحتلون الصهاينة في فلسطين، فإن علامات الاستفهام تزداد إلحاحاً حول قراءة اليهود للمتغيرات المتوقعة، أو اتخاذهم الاحتياطات اللازمة إذا تحققت قريباً!!
فمن الذي يسبق الآخر: النظام الأمريكي بإزاحة ترامب –ما لم يرتدع ويلتزم الخطوط الكبرى للممارسة المتفق عليها- أم فيروس الانقسام المتصاعد، والذي ربما كانت المطالبة بالاستفتاء على انفصال كاليفورنيا شرارته الأولى، مع أنها حتى اللحظة يُنْظر إليها على أنها فورة غضب عابرة؟