29 شعبان 1438

السؤال

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.. أنا فتاة أبلغ من العمر٢٣ عاما، وقد تخرجت منذ ٧ أشهر تقريبا بتقدير امتياز، وللأسف صارت حالتي النفسية جد سيئة ومتقلِّبة، وأصبحت عصبية أغضب لأتفه الأسباب، وحساسيتي مفرطة، وأحب كثيراً الجلوس بمفردي، وأحياناً أغلق باب الغرفة وأظل أبكي، وأصبحت لا أحب الإزعاج ولا أطيق أحدا في المنزل، ولا أتحدث ولا أضحك كالسابق، كذلك أصبحت أعاني من اضطرابات في الأكل، ولا أحد في المنزل يعلم بذلك. وصرت أعاني كذلك من الفراغ والعزلة، وأيامي كلها متشابهة، وجربت أن أقرا كتبا، وأسمع محاضرات ودروس، وأمارس الرياضة، ولكني مللت من روتين حياتي الممل، ولا أستطيع المشاركة في الأعمال التطوعية أو الانخراط في الدورات، ذلك لعدم وجود سائق أو شخص من العائلة يساعدني في التنقل، وقد جربت أن أتعلم لغة جديدة وأنا في المنزل ولكني فشلت، وطلبت من والدي أن أتعلم السياقة ولكنه رفض طلبي، وقال لي: “إذا أردت الذهاب إلى أي مكان سآخذك” ولكنه في الحقيقة مشغول دائماً بنفسه. وبالتالي صرت لا أخرج من البيت إلا نادرا، وفي اليوم الذي تجتمع فيه العائلة في بيت جدتي، أو لحاجة ملحة مثل الذهاب للعيادة أو سوبر ماركت، ولا ألتقي بصديقاتي، وحتى صديقتي المقربة هي من تزورني في البيت بحكم أن والدي لا يسمح لي بالخروج لوحدي أو معها، على الرغم من معرفته بها وبأخلاقها، وقد ناقشته كثيراً في هذا الموضوع ولكنه لا يعطيني أي مبرر أو سبب لرفضه، وأنا أحتاج أحيانا إلى الخروج من جو البيت لتغير نفسيتي وتجديد نشاطي، ولكن للأسف أسرتي من النوع الذي لا يشجع البنت على الإنجاز التقدم، وتفكيرهم جد سطحي، وكل همهم الأكل والاهتمام بالمظاهر.. وحاليا أبحث عن وظيفة مناسبة. ووالدي يريدني أن أعمل في التدريس ولكني لا أحب هذه الوظيفة،وليس تقليلا من شأنها وقيمتها، ولكنها لا تتناسب مع تخصصي، وقد جربتها مرة ولم أستطع الإبداع فيها. وأنا شخصيتي طموحة، وأرغب في التطوع والتسجيل في ورش ودورات، ولكن واقع البيت والأسرة لا تدعم هذه الأعمال، لذا رفضوا اشتغالي في عمل حر، ولم أجد منهم أي تحفيز أو دعم، فماذا أفعل. وحالتي النفسية تزداد تدهورا وسوءا..

أجاب عنها:
د. صفية الودغيري

الجواب

بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

 

أختي السائلة الكريمة، بداية أشكر لك ثقتك بموقع المسلم، وطرحك لاستشارتك، أما بالنسبة لمشكلتك فألخصها فيما يلي:

ـ اضطراب حالتك النفسية والعصبية..

ـ شعورك بالفراغ والرغبة في العزلة وانصرافك عن مشاركة أفراد أسرتك..

ـ شعورك بالملل من روتين حياتك ورتابته..

ـ رفض أسرتك تشجيعك على الإنجاز والتقدم، وعدم تحفيزك على تحقيق طموحك الوظيفي، وتخليهم عن مساندتك في الانخراط في الأعمال التطوعية، وتدعيم مشاركتك في الورشات والدورات..

ـ اعتزالك في البيت ورفض والدك لزياراتك لصديقاتك، والخروج من جو البيت لتغيير نفسيتك وتجديد نشاطك..

 

ومن النصائح والإرشادات التي أقدمها لحل مشكلتك ما يلي:

أولا: أنت في حاجة إلى يقين وإيمان قوي يربطك بميثاق الرِّضا بأقدار الله خيرها وشرها، فالإيمان واليقين الصَّادِق من شأنه أن يغْمُرَك بالسَّعادة، ويمنحك الشُّعور بالطُّمأنينة والسَّكينة، وهو شاطِئ الأمان الذي تَأْوين إليه النَّفس المضطربة فتستريح من عناء الدُّنيا وهمومها، وهو الرُّكن الشَّديد الذي تسكن إليه كي تقَوْى على ضعفها، وتَتصدَّى لما تواجهه من متاعب الدُّنيا ومَشاقِّها، وكي تُقاوِم الشَّدائد وما يحُلُّ بساحتها من المصائب..

 

فالإيمان بالله واليقين في عدله وإنصافه، يهَب الإنسان الصِّحة النَّفسية والرُّوحية وإنْ تَتابعت الخُطوب وتزاحمَت الكُروب، والرَّجاء في الله والاطمئنان إلى كفايته يبعث في النفس الشُّعور بالأمل والتفاؤل الدَّائم، أما من يفتقر إلى الالتزام الصَّحيح والتديُّن المستقيم، ويَحْيا بلا اعْتقادٍ ثابت ولا إيمان راسِخ، ولا يَقينٍ صادِق، ولا رِضا خالِص، يَشْقى في حياته وتضيق عليه الدُّنْيا بما رحبت، ويظلُّ يعاني من الضَّنك والشِّدة، مُضْطرِب النَّفس، خائِر القوى، شارِد الفِكر، مُشَتَّت الذِّهن، وكلَّما تعرَّض لمحنة لزِمَه القلق النَّفسي، والتَّوتر العصَبي، والاضطراب السُّلوكي، وكلَّما فشل في تحقيق أيِّ إنجاز في حياته أو لم يُدْرِك مطمحًا من مطامحه أو حُلمًا من أحلامه، أو تعرَّض لنَكْبة من النَّكبات انْهارَ بسرعة واستسلم للعجز واليأس والإحْباط..

 

ثانيا: عليكِ أن تحدِّدي هدفًا عظيما تَعْملين على تحقيقه، فالإنسان الذي يتخبَّط في حياته بلا رسالة نبيلة، ولا أهداف سامية، ولا غايات عظيمة، هو إنسان شقيٌّ محروم من السَّعادة الحقيقية..

 

كما يجب عليك أن توثقي ارتباطك بسِرٍّ وجودك، فليس الهدف ولا الغاية من وجودك هو أن تثبتي كفاءتك وتفوُّقك من خلال وظيفة تحدِّدين نوعها المُناسٍب لمؤهِّلاتك واختياراتك ـ وإن كان هذا حقًّا من حقوقك المشروعة ـ إنَّما الأَوْلى باهتمامك أن تثبتي وجودَك أوَّلا من خلال عبوديَّتك الخالصة لله، ومن خلال ترجمة إيمانك بالله سلوكًا ومعاملات، ومن خلال ارتباطك بغايات أعظم من غايات النفس التي تنتهي لذَّتها عند إدراكها، ومن خلال ارتباطِك بالأعمال والإنجازات الكبرى التي يكون مُبْتغاها الحصول على ثواب وأجر في الآخرة، وهو أَوْفى من أجور الدنيا وثوابها الفاني..

 

ثالثا: واعْلمي ـ أختي الكريمة ـ أنَّك مهما حقَّقت في حياتك من إنجازات، فلن تُسْعِدك بقَدْر تلك السَّعادة المُضاعفة التي ستَجِدين حَلاوتها ولذَّتَها الدَّائمة عند إرتباطك بغاياتِ وجودك، ولن تَشْعري بالاستقرار النَّفسي ولا بالتَّماسك والقوَّة إلا حين تَمْتَلكين أدوات العِلم، التي تجعلك تواجهين مخالب الجهل وسوء التدبير والفهم، وحين تَرْتَقين مراتب المعرفة والتَّفَقُّه بأحكام الشَّرع، فتلتزمين بتطبيقها وممارستها من خلال أقوالك وأفعالك، ومن خلال تَوْجيه جوارحك للاستقامة على الحق والطاعة، إذعانا لله وخضوعا لضابِط التَّكليف، وحِفْظًا لأمانة الاستخلاف والاحْتكام لشروطها، والاتِّجاه جسدًا وروحًا نحو قبلة تتوحَّد عندها الأعضاء والحواس والأفكار والمشاعر، في صلاة بخشوع وتكبير وتعظيم لله، ففي الأفراح والمسَرَّات تُصَلِّين حمدًا وشُكْرًا لله على إِنْعامه وأَفْضاله، وإذا توالت عليك الشَّدائد والخطوب والأحزان، تَفْزعين إلى الصلاة اسْتِنجادًا واسْتِغاثة بالله، وطلبًا للعون والسَّند والقُوَّة والكِفايَة..

 

فالوضوء، والصلاة، والمحافظة على الذِّكر، والمواظبة على قراءة القرآن، والسُّنن والنوافل، وسائر العبادات فيها الشفاء النفسي، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ قال: (الطَّهورُ شطرُ الإيمانِ، والحمدُ للهِ تملأُ الميزانَ، وسبحان اللهِ والحمدُ للهِ تملآنِ (أو تملأُ) ما بين السماواتِ والأرض، والصلاةُ نورٌ، والصدقةُ برهانٌ، والصبرُ ضياءٌ، والقرآنُ حُجَّةٌ لكَ أو عليكَ، كل الناسِ يغدُو، فبايِعٌ نفسَه، فمُعْتِقُها أو مُوبِقُها) رواه مسلم.

 

والمحافظة على الفرائض والمداومة على النوافل لها آثار إيجابية تنعكس على النفس، فهي تدفع الغضب والانفعال، وتبعث الاسترخاء النَّفسي والإحساس بالسعادة، وهذا ما يفسره قوله صلى الله عليه وسلم: (يا بلال أقم الصلاة، أرحنا بها)، وقوله صلى الله عليه وسلم: (إن الغضب من الشيطان وإن الشيطان خلق من النار، وإنما تطفأ النار بالماء، فإذا غضب أحدكم فليتوضأ) رواه أبو داود.

 

رابعا: عليكِ بالتزام التَّقوى وتَجنُّب ارتكاب المعاصي وكبائر الذُّنوب، لأنها تُكَدِّر النَّفس والخاطِر، ذلك أنَّ التَّقوى سبيل تفريج الكروب وتيسير الأمور، مصداقا لقوله تعالى: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً) الطلاق: 2، وقوله تعالى: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً) الطلاق: 4.

والمحافظة على الأذكار والأوراد الشرعيَّة، فهي من أعظم أنواع العلاجات لإزالة الغموم والهموم، ودفع ما يحزن النفوس.

 

خامسا: أكثري من الدعاء ليصرف الله عنك الاكتئاب وما يكدِّر خاطرك، ومن الأدعية النبوية في هذا الباب:

ـ ما روي عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: (اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن والعجز والكسل والجبن والبخل وضَلَع الدين وغلبة الرجال) رواه البخاري

 

ـ وما روي عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما أصاب أحدًا قطُّ همٌّ ولا حزَنٌ فقال: اللَّهمَّ إنِّي عبدُك وابنُ عبدِك وابنُ أمتِك ناصيتي بيدِك ماضٍ فيَّ حكمُك عدلٌ فيَّ قضاؤُك أسألُك بكلِّ اسمٍ هو لك سمَّيْتَ به نفسَك أو أنزلتَه في كتابِك أو علَّمتَه أحدًا من خلقِك أو استأثرتَ به في علمِ الغيبِ عندك أن تجعلَ القرآنَ ربيعَ قلبي ونورَ صدري وجلاءَ حزَني وذهابَ همِّي إلَّا أذهب اللهُ عزَّ وجلَّ همَّه وأبدله مكانَ حزَنِه فرحًا، قالوا: يا رسولَ اللهِ ينبغي لنا أن نتعلَّمَ هؤلاء الكلماتِ؟ قال: أجل ينبغي لمن سمِعهنَّ أن يتعلَّمَهنَّ) رواه أحمد

 

ـ وما روي عن سعد بن أبي وقاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (دعوةُ ذي النُّونِ إذ دعا وهو في بطنِ الحوتِ، " لا إلهَ إلَّا أنتَ سبحانَك إنِّي كنتُ من الظالمينَ "، فإنَّه لم يدعُ بها رجلٌ مسلمٌ في شيءٍ قطُّ إلَّا استجاب اللهُ له) رواه الترمذي.

 

سادسا: اشغلي نفسك بما هو مفيد، واغتنمي وقتك قدر المستطاع فيما يعود عليك بالنَّفع والبركة في السَّعي والعمل والإنجاز، كحفظ القرآن والمطالعة، وممارسة هواياتك وغيرها من الأنشطة المفيدة النَّافعة، وإن كان ذلك من داخل البيت، وحتى وإن لم تتوفَّر لك أسباب التَّواصل والتنقُّل خارج البيت، أنت تملكين أن تنظِّمي لقاءات أسبوعية في أيام محددة مع صديقاتك، لزيارتك في البيت، وأن تخصِّصي خلال تلك الأيام الجوَّ المناسب والممتع لاستقبالهن، وتهيِّئي معهن برامج لإنجازها، كجعل جلسة لقراءة كتاب، وكل واحدة تعرض من خلال قراءتها الخاصَّة ما توصَّلت إليه من أفكار ومعاني جديدة، وما تلاحظه من انتقادات، وتصويبات، وبالتالي تتشاركن في مناقشة تلك الآراء والأفكار والملاحظات بينكن، بحيث تجعلين من بيتك صالونا ثقافيا في فنون مختلفة، وبهذه الطريقة قد تجعلين الأسرة نفسها تعجب بفكرتك وتساهم في تطويرها لتتحول إلى مشروع يمكن توسيع آفاقه خارج البيت..

 

أو أن تجعلي من بيتك مجلسا تشارك من خلاله كل واحدة بما تتقنه من مواهب، وأفكار، وأنشطة، من شأنها أن تساهم في تنمية وتطوير مستواكن الثقافي والفكري، وبالوقت نفسه تتعلَّمن قيمة العمل الجماعي كخلية نحل، ومهما لازمك الشُّعور بالضَّجر والملل، عليكِ أن تُداوِمي على هذه الأنشطة، إنما ليس كأداء واجب يومي أو روتين اعتيادي، بل اربطي كل نشاط بغاية ونتيجة تؤول إليها..

 

ـ فممارسة الرياضة مثلا: غايتها الحفاظ على صحتك النفسية والجسدية..

 

ـ وعقد جلسات ولقاءات أسبوعية: غايتها امتلاك القدرة الفائقة على التَّواصُل والتَّخاطُب، وإجادة النِّقاش والتَّحليل والاستنتاج، والنَّقد والاعتراض، فالقراءة ليست لأجل التسلية والإمتاع فحسب، أو لملأ الفراغ وتمضية الوقت، ـ وقراءة الكتب: غايتها صقل شخصيتك، وتقوية ملكاتك ومؤهلاتك العلمية، والتثقيف والارتقاء بالفِكر والحِس والوجدان، وتحسين أسلوبك في الكتابة والتعبير..

 

واجْعلي من القراءة حياة مضاعفة، فالكتاب آمَنُ جَليس، وأَسرُّ أَنيس، وأَسْلَم نَديم، وأَفْصَح كَليم، وقد وصَفه أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ فقال: " الكتاب نِعْمَ الذُّخْر والعقدَة، ونِعْمَ الأَنيس ساعَة الوحدة، ونِعْم القَرين، والدَّخيل، والوزير، والنَّزيل "..

 

ـ وتعلُّم اللغات نطقا وكتابة: غايتها اكتساب مهارات جديدة في التَّواصل والاطلاع على ثقافات أخرى، واكتشاف تراث وحضارة المجتمعات غير الناطقة باللغة العربية..

 

سابعا: إذا كان والدك قد أراد لك أن تعملي في التدريس، فلا مانع من أن توافقيه وتخالفي هواك وما يُرْضيكِ، وتخالفي ما يُرْضي اختيارك الشخصي، فقد ييسِّر الله لك بعد ذلك أسباب تحقيق ما تطمحين إليه، ذلك أن الأمور لا تأتي دفعة واحدة وإنما بالتَّدرج وكذلك الأحلام والأماني لا تتحقَّق دفعة واحدة، ولا بحسب ما كنَّا نطمح إليه ولا بحسب الصُّورة التي كنَّا نتمناها، وإنما يختار الله لنا ويقسم لنا بحسب إرادته ومشيئته وتقديره، وفي كل ذلك خير وحكمة لا نعلمها إلا بعد مُضِي أجل وميقات معلوم، ولعل الله يدبِّر لك أمرا عظيما تجهلينه من خلال وظيفة التدريس، فهي وظيفة شريفة ولها رسالة نبيلة ـ إنما كما سبق وأخبرتك ـ كي تنجحي في مهمتك، وكي تحقِّقي ذاتك وتسْعَدي بأيِّ إنجاز تقومين به، وكي تجِدِّي وتَنْشطي من خلال أيَّة وظيفة أو نشاط تُمارسينَه، عليكِ أن تربطيه بغاية عظيمة، ورسالة نبيلة، ونتيجة تؤول إليها، وتربطي كل ذلك بثواب الآخرة لا ثواب الدنيا..

 

وفي الختام:

أسأل الله العلي القدير أن يصرف عنك كل هم وحزن، وأن يفرج كربتك وييسر أمورك، ويختار لك ما فيه الخير والنفع..