على عتبات مدرسة الإمام الخطابي (2/ 2)
9 جمادى الثانية 1438
د. عمر بن عبد الله المقبل

أشرت في المقال السابق إلى جملة من الدروس المنهجية والتربوية المستفادة من مقدمة الخطابي لكتابه الغريب، وفي هذا المقال تتمة بقية الوقفات.

 

  • الاعتذار للسابق:

حين يَظفر بعضُ الباحثين بشيءٍ فات مَن قبله ربما أخذتْه نشوةُ الفرح، وهذا القدْر مفهوم، لكن الذي لا يَجمُل بطالب العلم أن يَقلب هذه النشوة إلى فرصةٍ للتنقص ممن سبقه بقلة الاطلاع، ونحو ذلك، أما الإمام الخطابي فله مع هذا الشعور شأنٌ آخر، إذ يقول: "ولعل بعضَ ما نأثره منها ـ أي من مواد كتابه الغريب ـ لو بلغ أبا عبيد وصاحبَه لقالا به وانتهيا إليه، وذلك الظن بهما يرحمهما الله، فأما سائر ما تكلّمنا عليه مما استدركناه بمبلغ أفهامنا، وأخذناه عن أمثالنا؛ فإنا أحقّاء بألا نزكيه وألا نؤكد الثقة به".

 

قارن هذا الاعتذار الراقي بما سبقت الإشارة إليه في أول فقرات هذا المقال، ثم انظر كيف وصف جمعه بهذا الوصف الذي نأى بنفسه عن مدحه والثناء عليه ـ وهو جدير به ـ لكنه ترك ذلك للقراء والعلماء.. نعم، قد يقع من بعض الأعلام ثناءٌ على كتابه لغرضٍ معتبَر، لكن المؤكد أنه ليس شأناً مطردًا عند المصنّفين الكبار، بل عادتهم الإزراء على نفوسهم ومؤلفاتهم، ورحم الله امرءًا عرف قدْر نفسه.

 

  • مراكمة الكتب:

"وقد بقي في هذا الباب كتبٌ غير ما ذكرناه، منها كتاب أبي عبيدة معمر بن المثنى...، ـ ثم ذكر ثمانية كتب، ثم قال: إلا أن هذه الكتب على كثرة عددها إذا حُصِّلت كانت كالكتاب الواحد.. وفي الكتابين ـ يعني: كتاب أبي عبيدة وابن قتية ـ غنى ومندوحة عن كل كتابٍ ذكرناه قبل"ا.هـ.ـ

 

يغرم بعضُ طلاب العلم بجمع الكتب على حساب العناية بالتحصيل والتأصيل، فيذهب عمرُه ومالُه وهو يجمع دون أن يقرأ، أو يقرأ قراءةً أُفقية ورأسية فيصبح مثقفاً في ذاك العلم لا مؤصّلاً، ولو أنه قرأ وأتقن أصولَ كُتَبِ كلِّ فنّ؛ لضبط بقية الكتب، ولاختصر على نفسه زمناً وجهداً كبيرين في تتبّع المصنفات، ووجّه همّته لبقية العلوم التي يحتاج لضبطها وإتقانها.

 

وكم يُحسِن العالمُ وطالبُ العلم المتقن لطلاب العلم حين يذكر خلاصةَ تجربته مع كتب الفنّ التي طال تمرّسه معها؛ ليوفر على غيره عناءَ السير في طريقٍ غيره أولى به منه، كما فعل أبو سليمان الخطابي رحمه الله.

 

  • طبعة مزيدة ومنقّحة:

"وأما كتابنا هذا فقد كان خرج لي بعضُه وأنا إذ ذاك ببخارى في سنة تسع وخمسين وثلثمائة، فطلب إليّ إخواننا بها أن أمكّنهم من انتساخه، وأَحبوا أن يتعجلوا فائدتَه من غير تعريج عليّ في إتمامه؛ فأفرجت لهم عنه، ولما يأت النظر بعدُ على استيفاء ملاحظته، ولم يقع الاحتشاد مني لتهذيبه... ولما تنفّس الوقت، ورزق الله التوفيقَ لما أحب أن يوفِّق منه، وتصفّحت ما في تلك النسخة تبيّنت في أحرفٍ منها خللا، فغيرتُ وأصلحت، وزدت وحذفت، ورتبّت الكتابَ على الوجه الذي استقر الآن عليه"ا.هــ.

 

هذا درسٌ آخر في أهمية المراجعة "للطبعة الأولى" للكتاب، فعمَلُ البشر لا يخلو من قصور، ومِن فضل الله على الإنسان أن ينتشر كتابُه، ويُتلقى من القرّاء، فتظهر لبعضهم ملاحظاتٌ وتنبيهات يَستدركها الكاتبُ في الطبعة الثانية؛ ما يجعل للطبعة الثانية ميزة، ويحق أن يكتب على غلافها: "مزيدة ومنقّحة".

 

بعضُ المؤلفين قد ينتشر كتابُه، ويُطبع عدّة طبعات، ومع هذا فلا تكاد تجد فرقًا بين الأولى والخامسة، رغم تقادم الأولى، ولا شك أن هذا خلاف ما ينبغي؛ فالإنسان الدؤوب في الطلب، لا ينفك عن نقد نفسه قبْل الآخرين، ولا يزال يكتشف ضعفَه ونقصَه، وأن الحاجة للتسديد والتقويم مستمرة، حتى يستوي الكتابُ على سوقه، ويحقّق مرادَه الذي صُنّفَ لأجله.

 

رحم الله الإمام أبا سليمان الخطابي، فكم أفاد وأجاد في هذه الإشارات، التي تمثل منهجًا ينبغي أن يُحتذى، وهنيئًا لمن جمع الله له بين حب العلم، والدأب فيه، مع الخُلق الحسن، والعبارة الرشيقة، التي يتحقّق بها النصح في أعلى صوَرِه الممكنة كما كان هذا الإمام.

 

* المصدر: الموقع الرسمي للأستاذ الدكتور عمر بن عبد الله المقبل