14 جمادى الثانية 1438

السؤال

هل لي أن أبحث عن عزلة اجتماعية وشعورية فابتعد عن الناس وأذاهم، أم لابد لي أن أعيش بين الناس لأدعوهم؟ وإذا كانت دعوتي لهم تتسبب في إصابتي بأمراضهم نتيجة المشقة في تعاملاتهم والأذى في أسلوبهم..فماذا أفعل؟

أجاب عنها:
الشيخ أ.د. ناصر بن سليمان العمر

الجواب

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:

فالمؤمن الحق له رسالة سامية يعيش بها، تملأ حياته، وتملك عليه شغاف قلبه، تلكم هي رسالة دينه الحنيف الذي جاء به نبيه محمد صلى الله عليه وسلم.

 

يود المؤمن لو نشر خير هذه الرسالة ونورها في قلوب العالمين جميعا، كما جاء رسوله صلى الله عليه وسلم رحمة لهم، قال سبحانه: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}.

 

وبالفعل قد تأتي على المؤمن أوقات صعبة يستشعر فيها بقلة الأمل في تأثر الناس برسالته وبدعوته، وقد يعتريه الضيق من قلة الاستجابة، ومن الغفلة والهوى المحيط.

 

لكن المنهج الإسلامي قد خط خطوطا واضحة في مثل تلك الأوقات، فأمر بالثبات على أمر الله سبحانه، والصبر على دعوته ورسالته، وتحمل المشاق المقدورة ما استطاع، ووعده بالأجر الكبير والثواب الجزيل، لكنه أيضا لم يحمله ما لا يقدر أو يستطيع، فلا يكلف الله نفسا إلا وسعها.

 

فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: "المسلم إذا كان يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من المسلم الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم" أخرجه الترمذي وابن ماجه، وصححه الألباني.

 

فالمؤمن يخالط الناس ويدعوهم إلى الله جل وعلا، ويصبر عليهم، فيعلمهم ما جهلوا، ويبصرهم بما عنه غفلوا، ويهديهم إلى سبل الهدى الذي بينه رسوله صلى الله عليه وسلم.

 

وموسى عليه السلام لما طلب من ربه مفارقة أصحاب التيه - وهم فاسقون - {فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} لم يأذن له ربه سبحانه بالفراق، وإنما أمره بالبقاء والصبر حتى جاءه الموت.

 

وكذلك هارون عليه السلام، ويوشع بن نون تلميذهما عليه السلام أمر بالصبر معهم والبقاء، وهو الذي بعد انتهاء التيه قادهم إلى فتح فلسطين.

 

فالمؤمن يصبر ويحتسب ويتحمل لينال الأجر العظيم من ربه سبحانه، جزاء ما أعد لعباده الصالحين الذين يحملون رسالته فهم أحسن الخلق قولا ومقاما {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ}.

 

لكن لو ثقلت عليه التبعة والمسئولية بعد جهده وتعبه وصبره، فلم يعد يحتمل، وأصيب بالضرر والمرض مثلا، هنا أجاز العلماء له العزلة الخاصة (أي يبحث عن بيئة يستطيع أن ينجو فيها) كما في قصة الرجل الذي قتل تسعة وتسعين ثم قتل المائة فأوصاه العالم أن ينتقل إلى مكان آخر بعيداً عن هذا الجو الفاسد، لأنه وجد نفسه لا يستطيع أن يصبر مع هؤلاء فحدث القتل العظيم في هذا العدد الكبير.

 

ولما مات هذا التائب في الطريق، كان ما كان، وكان من أهل الجنة مما دل على رضا الله جل وعلا عنه.

 

فالإنسان إذا لم يستطع أن يصبر ولم يتحمل فإنه ينتقل إلى منطقة أخرى تكون بيئة صالحة له.

 

والمؤمن دائما يكون حيث كان قلبه، وحيث كان عمله الصالح، والبيئة الصالحة لأداء عباداته وشعائره، فهو يصبر ويدعو ويجتهد مادام يشعر بحياة قلبه، لكن عندما ينكر قلبه ويشعر بالتردي والتراجع والضرر، شعورا حقيقيا بأسباب ظاهرة غير متوهمة، فههنا نقول له ابحث عن بيئة أفضل لقلبك لتستمر حياته.