في شأن ملاحقة الهند للداعية الشهير ذاكر عبدالكريم نائيك ثار الحديث طويلاً عن محاربة الهند للاعتدال، فالداعية البارع في مقارعة خصومه وإلجامهم بالحجة مستخدماً ما أفاء الله من ملكة سوق الأدلة العقلية، والاستدلال الدقيق من كتب خصومه من أصحاب الملل والنحل الأخرى، حيث يحفظ بإتقان الكتب المقدسة لدى اليهود والنصارى والهندوس وغيرهم، من دون ممارسة أي نوع من أنواع الترهيب أو التحريض في مناظراته الحاشدة. وثار الحديث أيضاً عن فكرة الاعتدال نفسها، والتشنج العالمي في رفض الصوت الإسلامي الهادئ.
ربما صار هذا مألوفاً بعض الشيء، بما يستهلكنا بعيداً عن زوايا أخرى ربما هي من الأهمية بمكان لمنحها أولوية عند النظر لقضية كتلك؛ فبغض الطرف عن فكرة الاعتدال والتشدد، وما إذا كانت مسوغاً أو حافزاً لملاحقة الدعاة أم لا، ثمة ما يلفت طرفنا باتجاهات أخرى في هذه القضية.
الجانب الأظهر فيها، هو أن من يلاحق من علماء أو رموز أو مشروعات إسلامية، هو ذاك الذي ينظر له الأعداء والخصوم على أنه نافع وفعال، بغض النظر عن اعتداله من عدمه، وبغض النظر عن تداعيات توقيفه (كأشخاص)، أو إجهاضها (كمشروعات). هذا هو في الحقيقة هو عمدة ما يحرك الأعداء في إيقاف أي مسيرة دعوية شخصية أكانت أم مؤسسية.
وفي الطريق، قد يسمح لشخصيات أكثر "اعتدالاً" لأنها لا تأثير لها إيجابياً، أو أكثر "تطرفاً" ما دام تأثيرها سلبياً. والنظام العالمي قد يسمح بتمرير ودعم وتمويل نشاطات إرهابية لأن توظيفها في وقف قطار الإسلام فاعلاً، أو دعم نشاطات منظمات مدنية تنحرف بهذا القطار عن مساره أو تقوضه.
والداعية الشيخ ذاكر نائيك، هو من ذاك الطراز المقلق في الهند وغير الهند، فالرجل لم يقتصر على مناظرة النصارى في غير مناطقهم المؤثرة، وإنما اجتاز الحدود، وهدد فكرياً المنظومة الفكرية التي تقوم عليها الهندوسية في عقر دارها، وهو بعدُ لم يزل سائراً بطريق يتعدى دائرة مقارنة "الأديان"، لنشر الإسلام ذاته في رحاب أوسع من دوائر المناظرات الضيقة نوعاً ما. هو باختصار قد ارتكب المحرمات في منظومة "المجتمع الدولي" المناهضة للإسلام ذاته.
وهذا يحيلنا إلى محور آخر بات الحديث عنه هو الآخر ملحاً، وهو التداعي الأممي، والتخادم الدولي في مشاريع وقف زحف الإسلام في العالم، وتساميه فوق كل قيود التحييد والإبعاد. هذا التخادم الذي جعل من الانتربول وسيلة لملاحقة الدعاة حول العالم، كالقرضاوي ونائيك وغيرهما؛ فتلك الوسيلة، ولو لم تستخدم على نحو فعال حتى الآن، إلا أنها تبرهن على أن الوصول إلى جعل العالم برمته سجناً للأفكار، وشرطة للآراء في ظل منظومة دولية ترتعب من الإسلام مهما تدنت قوة منتسبيه وتراجع تأثيرهم.
إننا إزاء حالة من المعاداة الدولية آخذة في الصعود والظهور من بعد تقييد حركة الكثير من الدعاة، ومنعهم من دخول كثير من بلدان أوروبا وآسيا وأمريكا، على نحو متدرج، صارت أكبر نتائجه الآن اختفاء الاستضافات التي كانت المراكز الإسلامية في أوروبا وأمريكا والشرق الأسيوي توليها اهتماماً كبيراً، استضافات الدعاة والمؤتمرات والاحتفالات والاحتشادات في بلاد كانت ملجأ افتراضياً لحرية التعبير والآراء قبل عقود. اليوم يلاحق الشيخ نائيك، وقبل أيام يُتحدث عن منع الشيوخ النابلسي والعودة والعريفي من دخول الدنمارك، وقبلها تُرسل رسالة لجميع الدعاة بلزوم بلادهم بمحاولة اغتيال الشيخ القرني، وقبلها يمنع الشيخ القرضاوي من دخول بريطانيا.. الخ.
ما يستشف من هذا، أن العالم إذ يزعم الحرية والحضارة بغير الإسلام، بات يمارس طغياناً لم تمارسه البشرية من قبل، حيث لم يسبق أن الكرة الأرضية قد شهدت هذه "العولمة" في التضييق على الدعاة والمصلحين على مر التاريخ؛ فلقد عرفت البشرية فسحة كبيرة لأهل الخير ينطلقون في رحابها من بلد إلى آخر، فإن ضاقت عنهم أرض هنا اتسعت هناك.
اليوم، في ظل هذه العولمة، وهذه السيطرة الدولية على تحركات الناس عبر الحدود، ومع "اختراع" الانتربول، والمنظمات الدولية الجائرة، أضحت الملاحقة للعلماء والدعاة عالمية على نحو غير مسبوق، حتى إن بلداً كالهند، أو قارة كأوروبا – على اتساعهما - لم تعدا تكبحان جماح الطغاة الدوليين؛ فصار الإيقاف والملاحقة والحرب تتم بصورة دولية تكاملية في طغيانها وجورها.. هذا الظلم العالمي هو الذي خسره العالم بتراجع الحضارة الإسلامية عالمياً؛ فاستخدمت المدنية في التضييق والإبعاد والقهر.
إن الدرسين الأكثر الأهمية في مظلمة الداعية النبيل الشيخ ذاكر نائيك، أنه كلما كان المشروع الدعوي والاجتماعي أصلح للناس، كلما استدعى مخاطر الإجهاض، والعكس بالعكس، ولقد كان لمشروع قناة السلام دوره الفاعل في استجلاب عداء الغربيين والشرقيين من أعداء الإسلام، ليس لأنها تحض على الكراهية، ولا لأنها تشرعن للإرهاب، أبداً فحتى اسمها لا يؤشر إلا إلى الهدوء والسكينة والوسطية، بل لأنها مؤثرة.. وإذ ذاك، فليعُلم جيداً أن النجاح هو جالب للمخاطر. هذا لا يحمل على الإحباط، بالعكس، هو علامة جيدة على أن الداعية والمصلح والقوى المحبة للخير تسير في الطريق الصحيح.. عليها أن تواصل مسيرها باحتياطات أعلى، لكن يتعين عليها ألا تتنكب طريقها، لأنها بالدليل والمنطق والشواهد على الحق وإليه تسير.
وفي جانب آخر، يتعين فهم هذه العولمة، ومناهضتها بمشاريع عالمية تدرك طبيعة صراع اليوم وتعقيداته. ولن نكون متجاوزين إن قلنا إن الداعية الهندي لم تلاحقه بلاده وحدها؛ فـ"العالم الحر" راضٍ تماماً عما فعلته "الديمقراطية الأكبر في العالم"/الهند، ولولا رضاها لسمعنا صوت منظمة حقوقية واحدة في العالم تخالف إجماع الظلم والطغيان هذا.. تواطؤهم كاشف لأركان الجريمة العالمية جيداً؛ فالصمت عنوان التواطؤ والتماهي، وإلا لكنا سمعنا صوتاً في كل هذه النماذج السابقة (حتى محاولة اغتيال الشيخ القرني لم تستفز ليبرالياً واحداً في العالم ليتحدث عن جريمة إرهابية ضد صاحب رأي!).
لكن في كلمة أخيرة، ثمة درس بليغ ثالث في تلك الجريمة، جريمة الملاحقة، يبعث على التفاؤل: لا تحسبوا الأمر شراً؛ فإذا أراد الله نشر فضيلة طويت أتاح لها لسان حسود، وقد حصل؛ فلقد قدر الله أن ينتشر ذكر الداعية أكثر وأكثر عند من لم يكونوا يعرفونه.. هذا خير كبير جلبه النزق الهندي.
ما يدعو للتفاؤل أكثر أن عولمة الهجوم هذه، تعني أن للدعاة صوتاً مسموعاً في العالم، وله تأثيره الذي يستدعي غضب كهان الغرب والشرق. هذا بخلاف ما قد يظن اليائسون منا؛ فشدة الهجوم هي عنوان انبعاث إسلامي يخشى الأعداء غضبته وانتشاره، لهذا يتداعون له بهذه الفجاجة، التي من تداعياتها أنها تهدم أصول قيم غربية وشرقية لا يستمسك بها أصحابها ولا يلقون لها بالاً.. هكذا سيهدمون بمعاولهم هم معابدهم الآيلة للسقوط.. "والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون".