كما هو معلوم، فقد فاز الرئيس الإيراني حسن روحاني بفترة رئاسية ثانية، ووفقاً للنتائج؛ فإن هذا الفوز كان "مستحقاً عن جدارة" بالفوز بنسبة تجاوز الـ57% من تعداد الأصوات. النظام الإيراني يكذب كما يتنفس، لكن دعونا نصدقه هذه المرة من دون جدل طويل، فحتى لو كان كاذباً في كل معطيات الانتخابات فليكن تصديقه الآن "افتراضياً أو على مضض".
تفيد المعطيات بأن الإقبال على الانتخابات "كان تاريخياً"، ووفقاً لرئیس مجلس الشوری في إيران، علی لاریجانی؛ فإن نسبة الاقبال على التصويت في الانتخابات هي الأعلى في إيران منذ 92 عاما. ونسبة المشاركة – بحسبه أيضاً – فاقت الـ 70%.
إذا سلمنا بهذا جدلاً، فنحن إزاء عملية اقتراع جيدة، شارك فيها أكثر من 41.2 مليون ناخب، وقد سرت بطريقة ناعمة، ولم تحدث بها مخالفات كبيرة، برغم هذا الاحتشاد الكبير. نحن أيضاً أمام إقبال لا يعبر عن خيبة أمل الشعب الإيراني في العملية الانتخابية، ولا النظر إليها على أنها محض تدوير شكلي للسلطة بين أتباع المرشد الأعلى للثورة الإيرانية.
في السياق ذاته، هناك قناعة لدى قطاعات عريضة من الشعب الإيراني أنه يمكنها التغيير التدريجي أو أنها على العكس ثابتة على معتقدها بتأديتها "فرضاً دينياً" ألزمهم به "الولي الفقيه"، "نائب الإمام الغائب"، "صاحب الزمان المعصوم"، المرشد الأعلى للثورة الإيرانية، خامنئي (بحسب تسميات وقناعات أتباع الطائفة الإثني عشرية الشيعية)، ولهذا هي مقبلة بكليتها أو ببعضها وفاء لهذا المعتقد. هذان تفسيران متناقضان لكنهما يصلحان لجمع هذه الجماهير الغفيرة. (أحدهما - إن جاز التعبير - "سياسياً" والآخر "دينياً").
مهما يكن من أمر، فلا غرابة في توصيف ما يحصل في إيران على أنه ممارسة سياسية من نوع فريد، تحظى بدعم شعبي، وما نجم عنها يحظى كذلك بـ"شرعية شعبية"، هذا مع التأكيد على الفرض السابق، كون المعطيات الصادرة عن الداخلية الإيرانية صحيحة.
وما تقدم يستوجب دراسته بأي حال، من جهة قياسات الرأي العام الإيراني، وكيفية تحييد قوة الأقليات ضمن أطر من القمع والديمقراطية الشكلية معاً، وطريقة الحكم التي تبدو أنها تحقق شيئاً من التوازن في السلطات، لكنها في النهاية تحقق إرادات المرشد الأعلى وقيادات الحرس الثوري النافذة جداً.
الحاصل أن في إيران استقراراً، برغم أنها واحدة من أكبر دول المنطقة التي تحوي قوميات وأدياناً وطوائف شتى، ولديها نظام حكم موحٍ بالتمثيل الشعبي.. هذا كله صحيح، وكما تقدم يستحق الدراسة الموضوعية.
هذا كله يسير بها في اتجاه، ضمنت القوى العظمى ألا تمسه أو تتعرض له، وألا تتدخل في شؤون هذا البلد الداخلية، وبالتالي تركت للإيرانيين فسحة من إدارة ذواتهم على نحو يوفي لهم بخصوصيتهم الدينية. العامل الخارجي معتبر في ترك المجال للملالي والنظام الإيراني عموماً يدير نفسه على خلاف دول عديدة في المنطقة، والعامل الداخلي أيضاً معتبر في البناء التراكمي للدولة الإيرانية منذ عهد الدولة الساسانية.
وقد يبدو بناء على ما تقدم أن الصورة النمطية للحكم في إيران ليست سيئة بدرجة كبيرة، غير أن هذا يخالف كثيراً الواقع، وهو خلاف ما تخبئه الجُدُر السميكة للنظام الإيراني، الذي يحجب نظاماً "ثيوقراطياً" متشدداً في حكمه النافذ من خلف أستار كهنة معبد الطائفة؛ فالحق أن الإيرانيين قد استسلموا لنظام يمنحهم فقط حرية اختيار "محافظ إيران"/الرئيس، الذي له سلطة محدودة جداً قياساً بالمرشد الأعلى غير المنتخب، والذي فرض على الشعب الإيراني بسطوة الاعتقاد بمعصوميته الوهمية، وبسطوة قوة الحرس الثوري الذي يحكم قبضته على الدولة.
هناك من خلف حجب الحكم تبدو "التقية" واقعاً معاشاً في السياسة كما الحياة الاعتيادية، وكما هو واقع ممارسات الملالي؛ فالصورة جميلة لنظام ديمقراطي يتوافد فيها الناخبون بعشرات الملايين لانتخاب رئيسهم؛ فيما الحقيقة فاقعة تكشف عن أن هذا الرئيس ليس إلا سكرتيراً شخصياً للقائد الحقيقي للدولة ومحركها الأول، والممسك بكل أحبال العرائس المتحركة.
ينص الدستور الإيراني في مادته الـ115 على اختيار الرئيس من "مذهب الدولة" أي أنه لابد أن ينتسب إلى طائفة الاثني عشرية، وهو بهذا يستبعد ما بين 20-30% من الشعب الإيراني (السنة) من مجرد التفكير بالترشح (السنة إذن مرغمون على التصويت للأقل وحشية تجاههم، ولهذا من الطبيعي أن يندفعوا مثلما اندفعوا في فرنسا للتصويت لماكرون، للتصويت لروحاني!)، وهو في نصه الدستوري يشترط على الرئيس أن "تتوفر فيه القدرات الإدارية وحسن التدبير؛ ذو ماضٍ جيد؛ تتوفر فيه الأمانة والتقوى؛ مؤمن بالمبادئ الأساسية لجمهورية إيران.."، وهو بهذا التوصيف المطاط والفضفاض يسمح للملالي المعينين من المرشد تحت مسمى "مجلس صيانة الدستور" أن يختاروا من شاء المرشد "المعصوم"، ويستبعدوا من شاء، "علماً بأن مجلس صيانة الدستور نفسه يتحكم المرشد في تشكيلته بشكل مباشر وغير مباشر؛ إذ يتشكل المجلس من 12 عضواً، يعين المرشد نصفهم، والنصف الآخر يرشحهم القضاء الذي يعين المرشد رئيسه، ويوافق عليهم البرلمان" [1]، والبرلمان نفسه شبه معين أيضاً من قبل مجلس صيانة الدستور، حيث يتحكم المجلس في الموافقة على المرشحين تحت ذريعة ضمان حسن السيرة!.
بهذا الترتيب والتمكين، أضحى من السهل جداً استبعاد من شاء المرشد أن يستبعده من الانتخابات؛ فصار المتاح أمام تلك الملايين هم فقط 6 مرشحين، من أصل أكثر من 1600 مرشح للانتخابات، وبالتالي فنحن أمام ديكتاتورية أبدع الملالي في إظهارها في أثواب ديمقراطية، ثم أبدعوا في حشد الشعب لها في طوابير طويلة لاختيار من اختاره المرشد لهم!
هذا، كما تقدم، يحتاج لدراسة موضوعية معمقة لكيفية تمكن هؤلاء من إقناع هذه الأعداد الغفيرة بأن تلعب هذا الدور المرسوم لها على هذا النحو. هذا أمر يستحق العناية لفهم طبيعة حكم هؤلاء.. هناك عوامل لاشك جوهرية، منها ما يتعلق بإحجام الخارج عن تبني قضايا الأقليات الدينية والقومية على النحو الذي لا يفعله في أي من دول المنطقة السنية برمتها (هذا عامل سبب الاضطراب والحروب والثورات في منطقتنا واستثنيت منه إيران عن عمد)، ومنها قوة النظام وبنيته الداخلية، ومنها العقيدة الشيعية المستسلمة للملالي وأصحاب العمائم السوداء والبيضاء، ومنها أن للممارسة الانتخابية أثراً حقيقياً على الشعب الإيراني في بعض الملفات الحياتية ولو لم يكن لها أي أثر على المستوى الاستراتيجي والتخطيطي للدولة الإيرانية، ومنها أن الدولة الإيرانية لا تواجه أي تهديد من الخارج من قبل القوى الدولية والإقليمية، وهذا يوفر لها هامشاً من الحركة على المستويات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، لا يجعل النقمة الشعبية عليها طاغية، منها أيضاً أن رغبة الملالي تلاقت مع رغبات شعبية في التقليل من الالتزامات الدينية كالحجاب ونحوه؛ فاندفعت الجماهير غير المتدينة بالأصل وراء أماني بعض الملالي الموصومين بالاعتدال.
ما وراء جدار الانتخابات الأمريكية السميك، ثمة أمور لا نتوقف عندها طويلاً رغم أهميتها الكبرى: فعندما تقول فيدريكا موغريني، مفوضة الشؤون الخارجية بالاتحاد الأوروبي، في تغريدة على موقع تويتر "شارك الإيرانيون بحماس في حياة بلادهم السياسية، أهنئ الرئيس حسن روحاني بالتفويض القوي الذي حصل عليه.". وعندما يقول وزير الخارجية البريطاني بوريس جونسون: "خلال ولاية الرئيس روحاني الأولى، حققنا تقدما جيدا بشأن تحسين العلاقات بين المملكة المتحدة وإيران، بما في ذلك رفع مستوى العلاقات الدبلوماسية"؛ فنحن أمام تجاهل أوروبي تام للنظام الثيوقراطي الذي جرت من خلاله الانتخابات الإيرانية، واعتراف كامل بـ"ديمقراطيته" العرجاء، وعندما يوصم روحاني مجرم الحرب في سوريا والعراق واليمن بأنه "معتدل" في كل إعلام الغرب، وتظهر عواصم أوروبا احتفاءها بهذا الاختيار، وحينما تحتفي كبريات الوكالات والمؤسسات الإعلامية الغربية بهذا الاحتشاد الإيراني خلف نظام يصفونه من ذوات أنفسهم بالإرهاب ودعمه؛ فإن إدراك مغزى كل هذا لا يعد أمراً محيراً: فالغرب بهذا كله، ومن خلف هذه الحجب، يقول: نسمح بمزج بين الدين والممارسة شبه الديمقراطية، لكن على ألا يكون الدين إسلامياً (سنياً)، ونرضى بعملية انتخابية تفرز مجرمي حرب وإرهابيين على ألا يكونوا مسلمين (سنة)، ولا نتدخل في العملية الانتخابية معترفين بها، ولا نطلب فرض مراقبين دوليين، ولا نزحف بجحافل الإعلاميين والحقوقيين لانتقادها ما لم تكن داخل دولة إسلامية (سنية)، ولا نسمح بتوجيه المقترعين من الخارج على النحو الذي تفشى في الاستفتاء التركي الأخير ما لم تكن تلك دولة إسلامية (سنية).. هذا بعض ما يمكن استبصاره من وراء حجب الانتخابات الإيرانية الرئاسية الأخيرة.
ــــــــــ
[ 1 ] أمير سعيد، خريطة الشيعة في العالم، صـ 78