في نور آية كريمة.. "إن أريد إلا الإصلاح"
13 رمضان 1440
أمير سعيد

"قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا ۚ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَىٰ مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ ۚ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ ۚ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ ۚ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ" (88) هود

 

آية جامعة لمعانٍ متعلقة بخطاب الإصلاح، تتضمن خطاباً رفيع المستوى من شعيب عليه السلام لقومه، جعل كثيراً من المفسرين يستأنسون بحديث "ذاك خطيب الأنبياء" إذا ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم، على ضعف الحديث. فقد بدأت الآية برد شعيب عليه السلام بعد أن قال له قومه "إنك لأنت الحليم الرشيد"، سخرية أو استنكاراً أن يدعوهم إلى ترك عبادة غير الله وترك تطفيف الموازين؛ فكان رده متجاوزاً تلك الإساءة، ومترفقاً بقومه. يقول أبو حيان في البحر المحيط: "هذه مراجعة لطيفة واستنزال حسن ، واستدعاء رقيق (...) وهذا النوع يسمى استدراج المخاطب عند أرباب علم البيان، وهو نوع لطيف غريب المغزى يتوصل به إلى بلوغ الغرض".

 

"قال يا قوم أرأيتم": يقول محمد رشيد رضا: "يا قومي الذين أنا منهم وهم مني، وأحب لهم ما أحب لنفسي، أخبروني عن شأني وشأنكم". "إن كنت على بينة"، قيل النبوة، وقيل المعجزة، وقد لفت الرازي إلى معنى دقيق في تقدير الجملة جواب الشرط التي أداتها "إن" وفعلها "كنت"، فقال في الكبير: "واعلم أن جواب إن الشرطية محذوف، والتقدير: أنه تعالى لما آتاني جميع السعادات الروحانية وهي البينة، والسعادات الجسمانية وهي المال والرزق الحسن - فهل يسعني مع هذا الإنعام العظيم أن أخون في وحيه، وأن أخالفه في أمره ونهيه؟ وهذا الجواب شديد المطابقة لما تقدم، وذلك لأنهم قالوا له: ( إنك لأنت الحليم الرشيد ) فكيف يليق بك مع حلمك ورشدك أن تنهانا عن دين آبائنا؟ فكأنه قال : إنما أقدمت على هذا العمل؛ لأن نعم الله تعالى عندي كثيرة، وهو أمرني بهذا التبليغ والرسالة، فكيف يليق بي مع كثرة نعم الله تعالى علي أن أخالف أمره وتكليفه؟".

 

"ورزقني منه رزقا حسنا"، قال الماوردي: "فيه تأويلان: أحدهما: أنه المال الحلال، قاله الضحاك. قال ابن عباس: وكان شعيب كثير المال. الثاني: أنه النبوة، ذكره ابن عيسى"، وفي قوله "منه" أي من لدنه، إعزاز وإعادة الفضل كله لله صاحب الربوبية الرزاق الوهاب. قال صاحب المنار: "وهو كسبه بالحلال بدون تطفيف مكيال ولا ميزان، ولا بخس لحق أحد من الناس، فأنا مجرب في الكسب الطيب وما فيه من خير وبركة، لا فقير معدم أخترع الآراء النظرية فيما ليس لي خبرة به، أي : أرأيتم والحالة هذه ، ماذا أفعل وماذا أقول لكم غير الذي قلته عن نبوة ربانية ، وتجارب غنى مالية؟ هل يسعني الكتمان أو التقصير في البيان". وفي قوله حسناً: أي خالصا من الفساد الذي أدخلتم أنتم في أموالكم.

 

"وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه"، أي ما أريد أن أفعل عكس من أنهاكم عنه، قال أبو حيان: "قال صاحب الغنيان: ما أريد أن أخالفكم في السر إلى ما أنهاكم عنه في العلانية"، وتتبع الزمخشري كلمة "أخالفكم" مستنبطاً منها معنى حول المسابقة، وعقب الرازي على قوله بالقول: "أن أسبقكم إلى شهواتكم التي نهيتكم عنها لأستبد بها دونكم، فهذا بيان اللغة، وتحقيق الكلام فيه أن القوم اعترفوا بأنه حليم رشيد ، وذلك يدل على كمال العقل ، وكمال العقل يحمل صاحبه على اختيار الطريق الأصوب الأصلح".

 

"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت" أي قدر استطاعتي، أريد أن أبذلك لكم النصيحة لإصلاح فساد ما أنتم فيه من فساد العقيدة وفساد المعاملات، قال صاحب التحوير: "أي: ما أريد إلا الإصلاح العام فيما آمر به وفيما أنهى عنه ما دمت أستطيعه ; لأنه أمر بالمعروف ونهي عن المنكر ، ليس لي هوى ولا منفعة شخصية خاصة بي فيهما"

 

"وما توفيقي إلا بالله"؛ فهو وحده من يقدر على إنجاحي في طريق الإصلاح هذا. "عليه توكلت"، وهذا كمال التوحيد، فشعيب عليه السلام قصر توكله على الله، وفي "إليه أنيب" أسلوب قصر أيضاً، وفي خطابه يلحظ أن الرزق من لدنه، والتوكل عليه وحده، ولا رجوع إلا إليه سبحانه وتعالى.

 

وفي الآية يبدو طريق الدعوة الصالحة يتمهد ويستقيم بما يلي:
-    "حليم رشيد" قد سبق هذا وعززه، الحلم والحكمة والرشد والعقل التي يتميز بها المصلح، والتي تتجلى في شخصيته حد ملاحظتها حتى من قبل أعدائه وخصومه، وهي صفة تكاد تنطبق على كل الأنبياء، وتنعكس على الدعاة الناجحين.
-    علاقة جيدة مع المحيط الاجتماعي.. وتودد وتقرب وحسن مخاطبة.
-    البينة ووضوح المنهاج، واستمساك المصلح به، وظهوره أمام الآخرين.
-    الاستغناء عما في أيدي المدعويين، وتحري الرزق الحلال الخالي من شبهات الفساد. وبوجه أعم (ما لفت إليه محمد رشيد رضا إلى وجود تلك التجربة لدى شعيب عليه السلام التي تمثل نموذجاً تطبيقياً لا يجعل الداعية مجرد منظر بعيداً عن واقع الحياة واشتباكاتها وتحدياتها)

-    مصداقية الدعوة وتحقيق القدوة في شخص الداعية سواء أكان في السر أم في العلن.
-    الرغبة في الإصلاح، وفي قلبه إصلاح العقيدة، ومحاربة الفساد في المعاملات وغيرها.
-    العمل الدعوي الحكيم في حدود الاستطاعة، والإمكانات، دون ما قد يتخيله من قدرات تفوق إمكاناته وإمكانات دعوته. وحدود الاستطاعة تمتد في أبعاد مختلفة، منها الزمان الذي يعني الديمومة عليها ما دامت القدرة عليها متوفرة.
-    صدق التوكل على الله، وعدم الالتجاء لغيره في هذا الطريق الواصل إلى مرضاته سبحانه، وعدم الارتكان إلى أي سند غيره إلا في إطار الأخذ بالأسباب.
-    إدراك طبيعة مسار الإصلاح، وانتهائه خارج حدود الدنيا، حيث رجوع الجميع إلى الله سبحانه.

 

بهذا ينجح الداعية في طريقه، ولو لم يجد ثمرة هذا في الدنيا، مثلما واجه شعيب عليه السلام رغم كل هذا صدوداً حتى أهلك الله قومه في نهاية المطاف.. فالثمرة من عند الله، ولكن لابد من تحقيق شروط لتحقيق صحة المسار ذاته، وهو الذي يسأل عنه المرء يوم القيامة لا عن نتائج دعوته.