في نور آية كريمة.. "غلبت الروم"
22 رمضان 1440
أمير سعيد

الآية ضمن أحداث ذكرها القرآن في قوله تعالى: "الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ ۗ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ ۚ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ ۚ يَنصُرُ مَن يَشَاءُ ۖ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5)"

الآية فريدة، فهي تتحدث عن حالة تكاد لا تتكرر. معركة بين فريقين، قوتين عظميين، ليس فيهما فريق مسلم، وثمة فريقان يرقبان من بعيد، هما من العرب، فريق مسلم وفريق كافر، كلاهما يتمنى غلبة طرف، المسلمون يتمنون غلبة الروم لكونهم أهل كتاب، ومشركو قريش يتمنون غلبة الفرس لأنهم مثلهم وثنيون.

 

كانت المعركة في عام 615 م ، وهي معركة مؤثرة في التاريخ، إذ كانت حرباً عالمية، لم يتفوق فيها الفرس على الروم، ويدنون من قلب مملكتهم كمثل ما فعلوه في "أدنى الأرض" بالشام، يقول السعدي: " فكان المؤمنون يحبون غلبتهم وظهورهم على الفرس، وكان المشركون لاشتراكهم والفرس في الشرك يحبون ظهور الفرس على الروم، فظهر الفرس على الروم وغلبوهم (...)  ففرح بذلك مشركو مكة وحزن المسلمون، فأخبرهم الله ووعدهم أن الروم ستغلب الفرس".

و"الروم"، قال الطاهر بن عاشور: "اسم غلب في كلام العرب على أمة مختلطة من اليونان والصقالبة ومن الرومانيين الذين أصلهم من اللاتينيين سكان إيطاليا نزحوا إلى أطراف شرق أوربا، تقومت هذه الأمة المسماة الروم على هذا المزيج، فجاءت منها مملكة تحتل قطعة من أوربا وقطعة من آسيا الصغرى وهي بلاد الأناضول، وقد أطلق العرب على مجموع هذه الأمة اسم الروم تفرقة بينهم وبين الرومان اللاتينيين".

 

الآية تحدثت عن: معركة عالمية، وقد كانت تعني المسلمين، ولو كانوا ليسوا طرفاً حينها في المعادلة، بل لم يكن يأبه لهم لا الفرس والروم. حفظ القرآن هذا الاهتمام الإسلامي بمعركة تدور بعيداً عن مكة بنحو مسيرة شهر. وهذا الاهتمام لم يكن عبثياً، ربما في الحقيقة كان لدى الطرف الآخر المشرك هو نوع من العبث، لم يزد عن حد المقامرة مع المسلمين على نتيجة المعركة. لكن العبرة أن التفاعل لدى المسلمين حينئذ كان سيداً، وإن ارتدى لبوس المراقبة والترصد، ولم ينقده القرآن أو يهون من شأنه بل كشف للمسلمين عن نهاية السجال بين الفرس والروم، وكانت تلك البشارة مذهلة فقد كانت هزيمة الروم مذلة حينها، ولم يكن ليتوقع أحد أن تستحيل غلبة بعد بضعة سنين فقط.

 

اكتفى الصف المسلم حينها بدور المراقب، لكنه مراقب حذق يرمق المستقبل بعين ثاقبة. ولم يكن يعيب المسلمين العرب يومها ألاَّ يشاركوا في هذه المعركة، فتلك ليست معركتهم الآن؛ ففي الأفق معركتهم قادمة، في بضع سنين أيضاً، سيكونون في قلب المعادلة، سيهزمون كلتا القوتين العظميين معاً. وستصبح أنطاكية الرومية والمدائن الفارسية ضمن أحواز المسلمين وأعمالهم. ولقد كان "نصر الله" اليوم هو انتصار أهل الكتاب على أهل عبادة النار، لكنه سيكون غداً انتصار أهل الإيمان على كلا الفريقين الكافرين، وهكذا؛ فإن لكل مرحلة تطلعاتها وواقعيتها.

وكان الطرف المشرك في مكة يرقب لكن ارتقاب العابثين؛ فسواء أفرح هنا أو حزن هناك؛ فإنه خرج من المعادلة تماماً، وتسيد المسلمون. إن هذا المنحى الذي نحاه المشركون حينها يغدو إليه فريق من مسلمي اليوم، يكتفون بالمتابعة والترقب والتحسر وربما المراهنة.. إنها السلبية التي جافاها المسلمون الأوائل فتقدموا.. وتراجع المتأخرون.