المُحدِث المُسنِد "المباركفوري" في ذمة الله
25 ذو القعدة 1438
د. زياد الشامي

إذا كان موت العالم ثلمة في الإسلام لا يسدها شيء إلى يوم القيامة "إلا خلف له" كما ورد في الأثر فإن موت المحدث العالم بسنة النبي صلى الله عليه وسلم الخبير في علم الأسانيد ورجال الحديث الذي تمتاز به الأمة الإسلامية عن سائر الأمم...هو في الحقيقة ثلمة من نوع خاص إن صح التعبير .

 

 

ولعل السبب في كون مصاب رحيل المحدث ذو وقع خاص على الأمة الإسلامية هو قلة أعداد علماء الحديث المتخصصين بعلم الجرح والتعديل وعلم الأسانيد في الأمة , وندرة أسماء البارزين من أعلامها الذين اشتهروا باشتغالهم بأسانيد أحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم صحيحها وضعيفها وحسنها , إذ لا تكاد ذاكرة الأمة تسعف بذكر الكثير من الأسماء البارزة في هذا المجال لعل من أكثرهم حضورا وشهرة العلامة ناصر الدين الألباني رحمه الله .

 

 

من هنا يمكن استشعار مدى الخسارة التي ألمت بالأمة بعد أن فقدت أحد علمائها البارزين في علم الأسانيد , والمصاب الجلل الذي أصيبت به بوفاة أحد أعلام الحديث بشبه القارة الهندية العلامة المُسنِد الشيخ "ظهير الدين المباركفوري" صاحب أعلى إسناد بصحيح مسلم عن عمر يناهز 95 عاما .

 

 

مولد الشيخ ونشأته وعلمه

ولد الشيخ ظهير الدين المباركفوري عام 1923، والده الشيخ "عبد السبحان حسين آبادي" , قرأ القرآن الكريم صغيرا على أمه "خديجة" ، ودرس المرحلة الابتدائية في مدرسة صغيرة بقريته حسين آباد، ودرس المرحلة المتوسطة في ولاية يوبي، وأتم دراسته في المدرسة الرحمانية بمدينة دلهي .

أتقن الشيخ الراحل 17 علما وفنا كما يؤيكد تلامذته ومن عرفه ، منها: علوم الحديث، وأصول التفسير، والتاريخ الإسلامي، والمنطق، وله اختصاص وخبرة في تدريس سنن أبي داود ومقدمة ابن خلدون، حيث درسهما أكثر من 40 عاما.

 

 

 

عمله في التدريس

عمل العلامة"المباركفوري"في التعليم والتدريس فور تخرجه , فقد درّس في دار التعليم سنة 1942، ثم تنقّل في التدريس بين مدارس في مناطق مختلفة إلى أن استقر سنة 1958 في جامعة دار السلام في عمر آباد ، ودرّس فيها وقد شغل منصب وكيل الجامعة أثناء ذلك .

لما كبرت سن الشيخ ترك التدريس في المدارس والجامعة وتقاعد سنة 2005م  إلا أنه أبقى إفادته للأساتذة والواردين عليه ، كما أن مشاركته لهم في المناسبات لم تنقطع .

درّس الشيخ بعد تقاعده سنن أبي داوود قرابة 50 مرة واختص به ، ودرّس الصحيحين قرابة عشر مرات ، وتخرج على يده طبقات عدة ، فيهم عدد من العلماء الكبار , كما تولى إمارة جمعية أهل الحديث في ولاية تاميل نادو .

 

 

الأخلاق التي عرف بها الراحل

عرف عن الشيخ ظهير الدين المباركفوري أنه كان رفيقاً بطلبته وحليماً وحسن الخُلق، ومهما كان تعِباً يهش ويبش لكل من يسلم عليه , يُذكر عنه أن الأساتذة في الهند من عادتهم حمل عصا لضرب الطلاب المسيئين والمقصرين، لكنه درَّس 60 سنة، ولم يستعمل العصا ألبتة، ولم يضرب طالباً.

 

 

أهم ما امتاز به الشيخ

امتاز العلامة "المباركفوري" واشتهر بأنه صاحب أعلى إسناد بـ "صحيح مسلم"، وتلميذ المحدث أحمد الدهلوي؛ والمحدث الشهير المباركفوري؛ الذي أجازه في كتابه "تحفة الأحوذي شرح الترمذي"، وهو ابن ثماني سنين .

 

أجازه الشيخ أحمد الله بن أمير الله القُرشي الدهلوي والشيخ أحمد حسام الدين المئوي. أما الشيخ عبيدالله الرحماني المباركفوري، صاحب كتاب "مرعاة المفاتيح"، فقرأ عليه البخاري والموطأ كاملين والسنن الأربع.

 

من الأحاديث المُسندة للشيخ - رحمه الله -: أخبرنا الشيخ ظهيرالدين المباركفوري - رحمه الله - عن عبدالرحمن المباركفوري؛ عن نذير حسين؛ عن محمد إسحاق؛ عن الشاه عبدالعزيز، عن أبيه الشاه ولي الله؛ حدّثنا أبو طاهر الكوراني؛ أخبرنا حسن العجيمي؛ عن البابلي؛ عن محمد حجازي الواعظ؛ عن ابن يشبك اليوسفي؛ عن القلقشندي؛ قال: أخبرنا إبراهيم الزمزمي، عن ابن صديق الرسام، أخبرنا الحجار؛ أخبرنا ابن اللَّتِّي؛ أخبرنا أبو الوقت السجزي؛ أخبرنا الداودي؛ أخبرنا عبداللَّه الحَمُّوْيِيّ؛ أخبرنا عيسى السمرقندي؛ أخبرنا الإمام الدارمي؛ قال: أخبرنا حجاج بن منهال؛ حدثنا همام؛ عن قتادة؛ عن أنس؛ عن عبادة بن الصامت؛ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَن أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومَن كره لقاء الله كره الله لقاءه". فقالت عائشة – أو بعض أزواجه: إنا لنكره الموت. قال: "ليس ذاك، ولكن المؤمن إذا حضره الموت بشر برضوان الله وكرامته، فليس شيء أحب إليه مما أمامه، فأحب لقاء الله وأحب الله لقاءه، وإن الكافر إذا حضره الموت بشر بعذاب الله وعقوبته، فليس شيء أكره إليه مما أمامه، فكره لقاء الله وكره الله لقاءه".

 

 

نعى الشيخ الراحل الكثير من المنظمات والهيئات والعلماء والدعاة والمحبين من عامة المسلمين , وقد كان من بين الناعين المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة (أيسيسكو) التي قالت في بيان لها : إن العلامة المباركفوري أحد أعلام الحديث في شبه القارة الهندية وصاحب أعلى إسناد لصحيح مسلم .

 

 

ومن أبرز الدعاة الذين نعوا الشيخ الراحل رحمه الله د . محمد العريفي الذي غرد عبر حسابه على "تويتر" قائلا : توفي اليوم صاحب أعلى سند لصحيح مسلم العلامة "ظهير الدين المباركفوري" .... أهل الحديث هم أهل الرسول وإن ....... لم يصحبوا نفسه أنفاسه صحبوا .

 

 

جميلٌ أن يدرك أبناء الأمة قيمة ما فقدوه وحَسَنٌ أن يعوا حجم ما خسروه برحيل الشيخ المحدث ظهير الدين المباركفوري وامثاله من علماء الأمة الثقات ....ولكن الأجمل أن يعلموا على سد الفراغ الذي تركه رحيل أعلامهم ويكونوا خير خلف لهم بالسير على سيرهم والاقتفاء بأثرهم والاقتداء بهم في حب العلم والإخلاص بتعلمه لوجه الله وخدمة دينه الإسلام .