دخلت عليه بعد صلاة العصر بمجموعة من الأسئلة الفقهية فإذا شيخ وقور مهيب، حسن الوجه والهيئة، يجلس متربعا جلسة متواضعة، فاستحضرت في ذهني ما قاله الفقهاء في كتاب القضاء وهم يعددون صفات القاضي: "قويا من غير عنف، لينا من غير ضعف"، وفهمت كيف يجتمع الوقار والتواضع، وكيف تمتزج الهيبة مع البساطة.
مددت يدي وصافحت الشيخ، وانحنيت لأقبل رأسه، فدفعني بلطف، فعرفت كراهيته ذلك.
تكررت زيارتي له مرات بعد صلاة العصر، ولم يكن من عادته فتح الباب للطلاب إلا وقت المغرب والعشاء، فتعلق قلبي بهذا الشيخ، حيث عثرت على فَقِيه يصيب المفصل، ويضع الهناء مواضع النقب، ويضع يده على المحز، في أوجز عبارة، وأوضح إشارة.
كان الشيخ كثير الصمت، أكثر نظره إلى الأرض، شديد الحياء، لا يحدق النظر بعينيه إلى أحد، يكثر من الاستغفار والذكر أثناء الدرس، جادا حازما في أموره كلها، معرضا عما لا فائدة فيه من فضول الكلام، منقطعا للعلم تدريسا وتأليفا.
عرض علي أخي حسام ابن الشيخ أن أتزوج، فقلت له مازحا: (على يديك)، فلما كان بعد أيام قلائل وخرجت من أحد المناسبات تبعني وقال: أنت وصيتني على حاجة لك، وقد وجدت المناسب لك. فاستفهمت منه لأني لم أدرك ما يعني، فقال: أنت وصيتني أبحث لك عن زوجة، وأنا أعرض عليك أحد أخواتي، فلن أجد لها خيرا منك، وهي مناسبة لك. أصبت بإحراج شديد، وشكرت له حسن ظنه، ووعدته أن أجيب.
ما أعظمها من فرصة أن أجمع بين حسنتين إعفاف النفس والتشرف بالقرب من الشيخ الوقور، ولقد أحيا أخي وصديقي حسام بصنيعه هذا سنة ماضية من سنن النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام رضوان الله عليهم، قال الشوكاني رحمه الله: "عرض الرجل موليته على الرجل سنة قائمة في الإسلام". ويا ليت طلبة العلم يبينون للناس هذه السنة، وهي عرض مولياتهم على من يثقون بدينه وخلقه، وذلك بعد السؤال والتحري، حتى تسلم هذه الأمانات من الموليات لمن كان أهلا لهن من الأكفاء.
لم تكن خطبة ابنة الشيخ بحاجة إلى تكلف ورسميات وعادات، بل ذهبت إلى منزل الشيخ كعادتي بعد صلاة العصر، ثم طرحت عليه عددا من الأسئلة الفقهية، وقبل ختم المجلس قلت للشيخ: أنا جئت اليوم لأكمل ما بدأه أخي حسام، وإن كان فيه فرصة أحضر بعض محارمي لرؤية المخطوبة. فقال -وكان سبق السؤال عني-: بل تأتي أنت عصر الجمعة لوحدك لتنظر إليها، وعسى الله يكتب ما فيه خير لكما. يسر الله الرؤية والزواج، فكان دخول أم علي عليّ فاتحة رزق وباب توفيق وبركة، كان الشيخ يقول لها إذا اتصلت عليه: "انتبهي لخويك". ويوصيها بي خيرا.
أصبحت الآن أكثر قربا من الشيخ، فحضرت دروسه، ثم طلبت منه درسا خاصا فأجابني لذلك، وقال: نبدأ بأصول الفقه. قرأت عليه في أصول الفقه، فلما انتهينا قال: الآن نقرأ الروض المربع.
كنت كعادة طالب علم مندفعٍ أناقش الشيخ في بعض مسائل الروض وأعترض بأقوال شيخ الإسلام ابن تيمية وأدلته، فكان الشيخ كعادته يكثر الصمت والنظر إلى الأرض، فإذا أطلت رفع رأسه وأشار إلى الكتاب وقال: "حنا (نحن) نشرح كلام البهوتي". كررها الشيخ عليّ ثلاث مرات، ففهمت مراد الشيخ، وأن الهدف في هذه المرحلة هو فهم كلام البهوتي، وتصور مسائل الكتاب، فاختصر علي شيخنا سنوات من الضياع والتشتت في منهج التلقي والتعلم، وأفادني أن على طالب العلم أن يبدأ بتصور مسائل الفن، قبل معرفة أدلتها، ومناقشة الأقوال في المسألة، انتهينا من الروض، وابتدأنا في كتاب القواعد لابن اللحام فقرأنا منه ما شاء الله، ثم شرعت بقراءة شرح منتهى الإرادات عليه حتى انتقلت للسكن في القصيم، وكنت أحضر بعض دروسه الأخرى في شرح منتهى الإرادات، وفي قواعد ابن رجب، ثم في شرحه على التجريد، ثم في بعض المطلع على دقائق زاد المستقنع وأحاول الجمع بين بعض هذه الدروس وبين دروس شيخنا العلامة عبدالكريم الخضير.
المقصود من ذلك أن طريقة الشيخ في دروسه الأخرى كانت تختلف قليلا من ناحية توسع الشيخ قليلا في تفريع المسائل وتقسيمها، ومن جهة مناقشة بعض الأقوال، فكانت هذه مرحلة أخرى دالة على مراعاة الشيخ لحاجة الطالب، واختيار الأسلوب المناسب له حسب درجته في العلم.
ومما تميز به شيخنا رحمه الله أنه كان ينظر إلى الفقه من منظار واحد، فربما تكلم عن مسألة في كتاب الطهارة فأتى بمثيلاتها من أبواب الفقه الأخرى، ولا أحصي كم قرأنا عليه الصفحة والصفحتين فيملي علينا قاعدة مختصرة تغنينا عن الكلام الطويل، ثم يقول: احفظوا هذه القاعدة، وما في هذه الصفحات إنما هي أمثلة وتفريعات عليها.
لقد كان الشيخ بارعا في ضرب الأمثلة، مبدعا في تقسيم المسائل وتفريعها، فيقسم الموضوع إلى مباحث، والمبحث إلى مطالب، والمطلب إلى مسائل، والمسألة إلى فروع، وهكذا يستمر في التفريع حتى يستوفي صور المسألة وأحكامها.
أوصاني شيخنا رحمه الله بنصيحة انتفعت بها جدا، حيث قال لي: لا تكثر التنقل بين كتب الفقه، بل الزم كتابا واحدا، وأدم مطالعته، وكرر قراءته كلما انتهيت منه، واجعل الكتب الأخرى للاطلاع وبحث ما أشكل عليك، وأنا أقترح عليك العناية بكتاب الروض المربع.
وقد كان لشيخنا عناية فائقة بزاد المستقنع، وذكر مرارا أنه يحفظه، ثم يقول بتواضع: لكني الآن كبرت وصرت أنسى. كما كان شيخنا يستحضر مسائل الروض المربع، ويذكرها أحيانا بنصها، وربما قال مازحا إذا سئل عن مسألة: هذه المسألة موجودة في البخاري. أي: زاد المستقنع؛ لأهمية هذا المتن في الفقه الحنبلي.
وأزعم أن عناية الشيخ في الفقه كانت في تدريس ثلاثة كتب، هي: الروض المربع، وشرح منتهى الإرادات، وكشاف القناع. على أنه كان يقرأ عليه في الفقه غير هذه الكتب، بل يقرأ عليه المطولات، كالشرح الكبير لابن أبي عمر، حيث كان يقرأه عليه فضيلة الشيخ عبدالعزيز المزيد، وقد خص الشيخ هذا الشرح أواخر عمره بمزيد عناية، وسار فيه شوطا كبيرا.
لم يكن من عادة الشيخ معي أن يطلب مني التوقف عن القراءة، بل يرفع رأسه ويمد صوته بالذكر وكلمة التوحيد فأفهم من ذلك رغبته في ختم الدرس. والمقصود من ذكري ذلك نصيحة طالب العلم أن يكون فطنا لطريقة شيخه، عارفا لأوقات إقباله وإدباره، يأتي ما يحب شيخه، ويترك ما يكرهه.
لا أحصي بعد أن تقدمت مع الشيخ بضع سنوات كم سألته فقال لي متواضعا مختبرا: ايش رأيك أنت؟ فأجيب، فإن كان صوابا قال: صحيح. وإلا أجاب بالصواب.
وربما اتصلت عليه ابنته تسأل فيقول مازحا: وش يقول حمد. اسألي حمد.
ولم يكن الشيخ رحمه الله يتحرج أبدا من قول: لا أدري، ولا في الرجوع عما بان له خطؤه، وكنت عنده أحد الليالي فلما أردت أن أقرأ قال: انتظر. ثم اتصل على أحد طلابه وقال: كنت ذكرت لك في شرح المسألة في الدرس كذا وكذا، لكن الصحيح كذا وكذا. وكانت المسألة في كتاب القصاص-القتل العمد.
وسألته قبل وفاته بسنة عن مسألة تتعلق بكفارة القتل الخطأ تخص امرأة توفي صغيرها غرقا، فأطال الشيخ السؤال جدا ثم قال: لا كفارة عليها. ثم اتصل علي بعدها بلحظات وقال لي: أنا لا أدري، قل لصاحب السؤال يسأل العلماء.!. رحمك الله، وأنت في مقدم العلماء والفقهاء.
كان الشيخ لا يفتي في مسائل الطلاق إلا الزوج، وربما اتصلت الزوجة المطلقة فقال: الزوج هو الذي يسأل. ولعل ذلك لاحتياج المفتي غالبا إلى سؤال الزوج عن قصده وعن حاله وعن أمور تتوقف صحة الفتوى عليها.
كان مجلس شيخنا الوقور، المحفوف بالهيبة والجلال، لا يخلو أحيانا من قصة طريفة غير متكلفة يرويها يكون لها مناسبة، أو يسمعها من أحد الطلاب ويضحك لأجلها غير مقهقه، بل يخفيها، وربما وضع طرف غترته على فيه أثناء الضحك، ولم يكن هذا دأبه.
ومن ذلك أن أحد طلابه وهو الشيخ خالد الجناحي كان له ابنة سماها (تيميّة)، فكان جالسا في مجلس الشيخ وقد وضع أهله في مستشفى الولادة، فاتصل عليه أحد موظفي المستشفى وبشره بمولوده الثاني وهو مولود ذكر، فحمد الله وبشر شيخنا به، ثم اتصل الشيخ الجناحي بوالده وبشره بالابن وقال: ما ذا تريد مني أن أسميه؟ فقال والده: بنتك سميتها (تيميّة) ولم تستشرنا، فسم ابنك هذا ابن القيم. فأخبر بالقصة شيخنا عبدالكريم اللاحم فصار يضحك من رد الأب ويروي القصة لمن حضر من الطلاب.
كان الشيخ كثير اللهج بالدعاء لمشايخه عند ذكرهم، يحفظ قدرهم، ويعرف لهم مكانتهم وفضلهم، وقد ذكر عنده الشيخ محمد بن ناصر العبودي فأخذ يدعو له ويقول: للشيخ أفضال عليّ فجزاه الله عني خير الجزاء. ثم تبسم الشيخ وقال: وإن كان الشيخ محمد قد سطرن كف (صفعني على وجهي). ثم قال: (لما كنت أدرس بالمعهد العلمي ببريدة كان الشيخ محمد العبودي مديرا للمعهد، وكانت تقررت زيارة الملك سعود بن عبدالعزيز رحمه الله للقصيم، وكان من جدول زيارته أن يزور المعهد العلمي، فجعل الشيخ محمد العبودي الطلاب يقفون صفين وهو يمر بينهم يحكي أنه الملك سعود وذلك لتدريب الطلاب على استقبال الملك، يقول الشيخ عبدالكريم فكنت مسرورا بهذه المناسبة فأخذت أتبسم فرحا، فمر بجانبي الشيخ محمد وكان يظن أني ألعب فصفعني على وجهي). ثم أخذ شيخنا يدعو لشيخه محمد العبودي ويذكر أن للشيخ أفضالا عليه.
كنت أنظر إلى شيخنا متعجبا وهو يقص هذه القصة بسلامة صدر وابتسامة! فرحم الله شيخنا، وغفر لهذه النفس النقية السليمة الطاهرة.
قال لي الشيخ أكثر من مرة: كنت أرعى الغنم بالمستوي (موضع رعي قريب من قرية الشيخ الشماسية) فإذا رجعت إلى الشماسية مشى معي الذئب ولا يتعرض للغنم، حتى أدخل القرية ثم يرجع.
ولا أدري هل وقعت هذه القصة لشيخنا مرة، أو مرات.
ومن لطيف ما وقع للشيخ أن ذئبا هجم على القرية، وحمل الشيخ وهو في مهده، وانطلق به يعدو، لكنه سقط منه وسلم الطفل الرضيع، ومضى الذئب بالمهد، ولعله كان يحسب الطفل داخله.
لقد رزق شيخنا رحمه الله جلدا على التعليم وهمة في الكتابة والتأليف، فكانت دروس الشيخ تقام في بيته كل يوم بعد صلاتي المغرب والعشاء، سوى مغرب الثلاثاء فهو للجلوس مع أهله وولده.
وكانت مكتبة الشيخ عامرة بطلبة العلم الجادين، الذين يقصدون الشيخ للقراءة عليه في الفرائض والفقه وأصوله وقواعده، وغيرها من العلوم.
وطلبت منه مرة أن يزيدني درسا فقال: ليس عندي إلا العصر، لكن العصر لي للقراءة والتأليف.
لقد كانت دروس الشيخ ممتدة حتى توفاه الله، فكان في آخر سنة من عمره يلقي الدرس وعليه الأكسجين، ويعاني من ضعف في عضلة القلب، مع كبر سنه وتقدمه في العمر.
ولم يكن هدف الشيخ من التأليف ماديا، بل كان يرجو به وجه الله وخدمة العلم وأهله، كذا نحسبه والله حسيبه، ولا نزكي على الله أحدا، فها هو شيخنا يوقف كتابه فقه المواريث على أحد مكاتب الدعوة ليصرف ريعه في الدعوة إلى الله، وأخبرته مرة عن أحد كتبه أنه يباع في الأسواق وقد كتب عليه طبعة مزيدة ومنقحة، فتبسم الشيخ وقال: هذه الدار كلما نفدت الطبعة أعادوا طباعته وكتبوا عليه الطبعة كذا. فقلت: لم لا تقاضيهم يا شيخ وتطالب بحقك؟ فقال: لا، فالمهم أن ينتشر الكتاب وينتفع به الناس.
ولما أخبرت الشيخ بانتشار نسخة الكترونية من كتابه شرح تحفة أهل الطلب في مواقع التواصل فرح وسر بذلك كثيرا وحمد الله.
وقد كان شيخنا شديد الحرص على الصلاة جماعة في المسجد رغم حالته الصحية ومشقة الذهاب إلى المسجد، حيث امتد به المرض لأكثر من سنة، وأخبرني في آخر أيامه أنه يحزنه عدم قدرته على حضور الجماعة، ودخلت عليه مرة فقال لي فرحا مستبشرا: الحمد لله، صليت الجمعة هذا اليوم.
لقد ذكرني حال شيخنا بقصة حكاها عن شيخه محمد بن إبراهيم، وذلك أني تقدمت شيخنا إلى المسجد القريب من منزله ببريدة لصلاة العشاء ثم حضر الشيخ قبيل الإقامة فأراد أن يصلي تحية المسجد، فقلت له: أحضر لك كرسي أيسر لك يا شيخ؟ فنظر إليّ وقال: لا، لا، بل أعتمد على العصا. ثم صلى قائما معتمدا على العصا يركع ويسجد ثم يقوم بصعوبة، فتذكرت لما قال لي شيخنا: كان الشيخ محمد بن إبراهيم يصلي بنا في آخر حياته، فإذاقام من السجدة استوى الناس قياما والشيخ ابن إبراهيم لا يزال يعالج القيام بصعوبة فحدثتني نفسي أن أكلم الشيخ ابن إبراهيم في أن لا يتلفظ بالتكبير حتى يكون قريبا من حال القيام لكنني هبت من الشيخ.
قبل وفاة الشيخ بأسبوع أكرمني الله بزيارة له مع أولادي امتدت لساعتين تقريبا بعد صلاة العشاء، وكنت كلما استأذنت منه للانصراف. طلب مني الجلوس ويذكر أن الوقت لا يزال مبكرا، لم أكن أعلم أنه اللقاء الأخير في هذه الدنيا، ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء.
الشيخ الكبير يجلس كما رأيته أول مرة، مهيبا وقورا، متواضعا بسيطا، كان ينظر إلى أولادي ويلاطفهم، اتجهت ابنتي الصغيرة التي لم تكمل الثلاثة أعوام إلى المكان الذي كان يضع فيه الحلوى، ويعطيهم منها كعادته، ففتحت الدرج وأخرجت الكيس، وأحضرته لجدها الشيخ فابتسم ووزعها على الأولاد وحظيت بواحدة منها، كان الشيخ ينظر إلى الأولاد، وأنا أنظر إليه، ولم يخطر ببالي أنها نظرات الوداع، لكنني في تلك الزيارة شعرت برغبتي في أن أملأ عيني من النظر إلى الشيخ، بدلا من سؤاله والحديث معه، وكان آخر ما سألته ابنته عن خروج المرأة المحد لزيارة المرضى من الأقارب -وسبب السؤال فتيا سمعتها من أحد المشايخ-، فأجاب الشيخ بالمنع، وأنها لا تخرج إلا لحاجة ملحة.
سألت الشيخ عن كتابه المطلع؟ فقال: بقي منه شيء يسير من آخر كتاب الحج، ولا أدري هل سأتمكن من إكماله أم لا؟. فقلت: ستكمله بإذن الله، وأسأل الله أن يمتعك بالصحة والعافية. ثم أخذت أثني عليه، وأنقل ثناء الناس على مؤلفاته ومنها شرح تحفة أهل الطلب.
أخبرني أهله بعد ذلك أن الشيخ نشط للكتابة قبل وفاته بيومين فأكمل شرح المتبقي من كتاب الحج، وهذا من توفيق الله -عز وجل- لشيخنا، أن ييسر له ما أحب، ويختم له على عمل صالح.
استيقظت صباح السبت على رسالة من أحد أبناء الشيخ يخبرني فيها بوفاة الشيخ، كان الخبر مفجعا مفاجئا، استرجعت ودعوت الله أن يجبر مصيبتي، وأن يخلف لي خيرا منها، تذكرت قصة ذكرتها لي زوجتي وهي أنه لما مات الشيخ محمد ابن عثيمين توجهت إلى المكتبة وكانت تظن أن الشيخ يعلم بوفاته، فتحدثت معه عن وفاة الشيخ محمد، فجثا شيخنا على ركبتيه وأخذ يمسح بيمينه على شماله ويقول: مات الشيخ؟ مات العلم! مات العلم!.
مصاب وهى قلبي وأذكى غلائلي * وأصمى بسهم الافتجاع مقاتلي
رأيت شيخنا بعد وفاته على حال حسنة، وكان في المنام يوصي بالعلم وتعاهد المحفوظ وتكراره.
صلي على شيخنا عقب صلاة العشاء من يوم السبت ١٤٣٨/١٠/٢١هـ، ودفن بمقبرة الموطا ببريدة، وحضر جنازته جمع كبير من طلاب الشيخ ومحبيه، من داخل منطقة القصيم وخارجها.
توفي الشيخ رحمه الله وخلف إرثا علميا، وأولادا بررة صالحين، لعل الله يوفقهم لنشر علم الشيخ وتصانيفه، فذلك الظن فيهم.
كما رزق الشيخ بطلبة علم جادين صادقين، المؤمل منهم الوفاء بحق شيخهم، وعرض شيء من سيرته، ونشر علمه، والإكثار من الدعاء له.
وقد كتبت هذه الأسطر إجابة لطلب بعض الإخوة الفضلاء، حيث استحثني واستعجلني في كتابة شيء من صفحات شيخنا، ولم يكن في الخاطر أن أكتب، فقد كنت كتبت سيرة قبل وفاة شيخنا بسنة، ذكرت فيها جانبا ومواقف من حياة شيخنا رحمه الله، هي أتم من هذه الأسطر بكثير، لكنها فقدت مع مجموعة من البحوث الخاصة، ولم تنشط النفس للكتابة مرة أخرى، فالمصاب جلل، والحزن والهم ينسي، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
ولعلي -إن يسر الله تعالى- أكتب ترجمة مبسوطة للشيخ -رحمه الله- وأضم إليها ما كتب عنه وقيل فيه.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد.